وسيلة (العدل والإنصاف) المزعومة وأثرها في شق الخط السلفي - للشيخ د. صلاح الخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

             (وسيلة العدل والإنصاف المزعومة وأثرها في شق الخط السلفي)

الحمد لله الذي أحب الاجتماع وارتضاه، وشاء الاختلاف كوناً وقضاه، وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وعلى آله ومن والاه، وبعد:

إن المتأمل في واقع السلفيين يجد أن الانشقاق بينهم بدأ يكبُر، والخلاف بينهم بدأ يكثر،  ولاشك أن لذلك أسباباً كثيرة، وعوامل دخيلة، ولعلي في هذه الكلمات أقف مع سبب رئيس، وجد كعامل مشترك للخلاف دسيس، وأخصه بالذكر؛ حتى ينتبه الغافل، ويتذكر الناسي، وينتفع المتابع للخلافات السابقة، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

والعنوان أفصح عن سبب هدام للجمع، مفرق للشمل، ومعولٍ من معاول الإخوان المسلمين ومن سلك سبيلهم من الذين ارتضوا لأنفسهم الخلاف والفرقة، شريطة التوافق في قاعدتهم المشهورة (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) ذلكم التعاون يحصل للجميع ومع الجميع إلا مع السلفيين؛ لأنهم العدو اللدود الذي يعيق سير دعوتهم السياسية.

والمقصود أن أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم الخلاف والفرقة سعوا إلى بث الفرقة بين السلفيين، وفق (فرق تسد) وتسلم وتستعيد بعض الجمهور، ولو المتوقفين منهم.

فاستخدموا وسائل جذابة، ومعاول فتاكة، مسمياتها براقة، وحقيقتها هدامة، ومنها وسيلة (العدل والإنصاف)، التي هي في حقيقتها ظلم وإجحاف، تذكرنا ببعض أصول المعتزلة كـ(العدل)، حسنة الاسم، قبيحة المسمى؛ فوجب التحذير؛ خشية الاغترار والتبرير، ولن أتعرض للأشخاص الذين اغتروا بوسيلتهم ونهجهم، وإنما أكتفي بالوصف النظري المجرد، واللبيب بالإشارة يفهم.

إن وسيلة (العدل والإنصاف) كُسِيت بحجاب الإجمال، وأُلبست جلباب التحفظ والاحتمال، وضُمِنت مجموعة من السلاح القتَّال، ولكل سلاح حظه من الإجمال والاحتمال؛ فإن سألت عن سبب ذلك؟

فالجواب: أن هذه الجماعة تيقنت أن الجميع لا يمكن أن يوافقهم، وما لا يدرك كله لا يترك جله، فكلما أرادوا الوصول إلى غاية معينة بالغوا بالإجمال، من أجل أن يتطرق إليها الاحتمال، فيقف الناس منهم ثلاثة مواقف: القبول والرد والتوقف. ومن ثم يبذلون جهدهم في تفريق شمل من خالفهم؛ بشتى السبل، ومنها: الإشادة بالمتوقفة بأنهم هم أهل العدل والإنصاف، حتى يصلوا معهم إلى نقطة تخفف من حدة الخلاف، ويصرحوا لهم بأنهم المعتدلون الذين عليهم المعول، وأولئك متشددون قولهم معطل.

والملاحظ أن الأسلحة الفتاكة للصف السلفي المسوجة بسياج الإجمال والاحتمال والمتعلقة بهذه الوسيلة كثيرة ومنها:

  • نصحح ولا نجرح؛ لأنه ليس من العدل والإنصاف!!

  • نحمل المجمل على المفصل؛ لأنه ليس من العدل والإنصاف!!

  • نبين الحسنات ولا نكتف بالقبيحات؛ لأنه ليس من العدل والإنصاف!! ..الخ

والإجمال المحاط بغاية هذه الأسلحة هو السبيل؛ لكي يعمل ذلك السلاح عمله، فتنبه!!

فإن اُكتُشِف بطلان شيء من ذلك، واحتيج للتوبة والرجوع، كُسِي التراجع حلة الإجمال، وضاع المقصود من التوبة تحت عباءة الاحتمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.

وكل سلاح يحتاج إلى وقفات، ومجموعة من البيانات؛ تكشف الباطل الذي به يتوصلوا، وتوضح الحق الذي به يتستروا .

ولقائل أن يقول: ما الهدف والغاية التي يجنيها الإخوان المسلمون ومن سلك مسلكهم، من انتشار هذه الأسلحة في صفوف السلفيين؟

والجواب واضح لمن تأمل؛ فإن ذلك يحقق الغاية المنشودة من تفريق الصف، وتشتيت الكلمة، وتخفف وطأة الجميع عليهم، وصهر المخالفات وأصحابها بينهم، وحينئذٍ صارت الجماعتان محفوفتين بثوب التجميع.

ولاشك أن وسيلة (العدل والإنصاف) عملت عملها في شق الصف –وللأسف الشديد-، ولكن هل انطلت هذه الوسيلة على ما تضمنته من أسلحة على كل السلفيين؟

والجواب: أن العلماء بحال ألاعيب القوم وطرقهم، حذروا وبينوا فساد أصولهم وقواعدهم الفاسدة، بل وكل من سار على دربهم، والموفق من وفقه الله وحماه من تلك الفتن ما ظهر منها وما بطن. ولكن هل من مزيد توضيح لأثر تلك الوسيلة (العدل والإنصاف) في واقع السلفيين –أو المنتسبين إليهم-؟

ويمكن تقريب الجواب في الأقسام التالية:

القسم الأول: المتابعون لتوجيهات علمائهم، السائرون على منهاج سلفهم، وهم أهل العدل والإنصاف حقاً وحقيقة، ظاهراً وباطناً.

القسم الثاني: من انطلت عليهم تلك الأساليب المزخرفة، وتأثروا بالدعايات المنفرة؛ فأصبحوا يقررون تلك الوسيلة بتقعيد سلفي –زعموا-؛ بحجة أن المنهج السلفي يحتاج إلى مزيد تأصيل، وما سبق من الإشارات، ينصب على ما صدر من بعض هذا الصنف من مقالات.

القسم الثالث: وهم الذين غلب عليهم الجهل والجفاء، والتنطع والدهماء، والولع للفرقة والخلاف، بسلوك طريق التعسف والإجحاف؛ فحملوا وسيلة (العدل والإنصاف) ما لا تحتمل، مبالغة في مخالفة باطل الإخوان ومن سلك مسلكهم، فقالوا بتبديع كل من وقع في بدعة؛ لأن هذا من العدل والإنصاف بين المخالفين!! بل قالوا: بتبديع كل من لم يبدع من وقع في بدعة؛ لأن هذا من العدل والإنصاف بين المخالفين!! وتحريم الدعاء للمبتدع مطلقاً؛ لأن هذا من العدل والإنصاف بين المخالفين!! ..الخ تلك الأسلحة المدمرة التي اخترعوها –ولم تسلم من وصمة الإجمال-؛ مقابلين بها أسلحة القوم!! ولكن الباطل لا يهدم بباطل، ولا يزال بشتائم الجاهل.

والحمد والفضل لله وحده الذي وفق أهل الحق ليكونوا حسنة بين سيئتين، وحقاً بين ضلالتين، فعرفوا أمر الله من العدل والإنصاف واتبعوه، وعرفوا الباطل واجتنبوه، فكان لهم نصيب وافر من امتثال قوله تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)).

        والمقصود أن وسيلة العدل والإنصاف وغيرها من الوسائل المحاطة بجلباب الإجمال، والمبيحة لجملة من الاحتمال، إنما هي من مسائل الفقه الحركي العصري الذي يسير عليه الإخوان المسلمون؛ فإن الفقه الحركي يقوم على دعامتين:

الأولى: التغير وعدم الثبات.

الثانية: الغموض وعدم الوضوح.

فاللجوء إلى مثل هذا الفكر الدخيل: الفقه الحركي العصري، إنما هو هروب من التعامل مع فقه السلف الصالحين، والقيام بأفعال تنافي مقصود العبودية لله تعالى؛ وذلكم أن وضوح السلفي في مواقفه تجاه مخالفيه، وثباته على تلك المواقف إنما هي تعبداً لله تعالى وابتغاء مرضاته، فالحب لله والبغض لله، والولاء والنصرة لله، والبراء والمعاداة في الله.  

ولذلك أشار الرب جل جلاله إلى مثل هذه الأفعال التي يدخلها الاحتمال بقوله مبيناً حال المنافقين: ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16).. )[البقرة: ١٤ – ١٦].

هذا ما خطر في البال، وهي إشارات نرجو أن تفي بشيء من المقصود مما تم تدوينه في هذا المقال، ونسأل الله السداد والرشاد لصالح الأقوال والأفعال، والتوفيق والإخلاص في سائر الأعمال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                        كتبه: صلاح محمد بن محمد موسى الخلاقي

                                                         6/1/1432هــــــ