رسائل لم يحملها البريد .. إلى خطيب الجامع - للشيخ د. صلاح الخلاقي

رسائل لم يحملها البريد .. إلى خطيب الجامع


الجمعة في الإسلام لها مكانة رفيعة ومنزلة عَلِّية، أضل الله عنها من كان قبلنا من اليهود والنصارى، وجعلها شاهداً وعيداً لأهل الإسلام، وخير أيام الأسبوع، والاجتماع فيها يذكر بيوم التلاق، استحب لها الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب والسواك والتبكير، تُكفَّر فيها السيئات ويرفع الله بها الدرجات، خصت صلاتها وخطبتها من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائص لا توجد في غيرها، أمر الله بالسعي إليها وحذر من الانشغال عنها، وأوجب على المسلمين الانصات لخطبتها، ولا يتخلف عنها إلا معذور أو محروم،  قال صلى الله عليه وسلم : (من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة، طبع الله على قلبه).
وحيث أنك أخي الخطيب حُمِّلت مهمة توعية الناس وتوجيههم، في مثل هذا المشهد المهيب، لإقامة هذه الشعيرة العظيمة، فإليك بعض الوصايا والتوجيهات، أتتك من محب مشفق، نفعه الله وإياك بها، فأقول:
•    لا يخفاك ما لخطبة الجمعة من دور عظيم في نفوس السامعين، فنَفْعها لا يُنكَر، وأثرها لا يُـجهل ولا يستصغر، فهي وسيلة دعوية، ومحطة إرشادية، يتعلم من خلالها الجاهل، وينتبه الغافل، ويهتدي الضال، وتسمو بتوجيهاتها النفوس، وتزكو الضمائر، وتتهذب الأخلاق، وتحيا بها السنن وتندرس البدع، ويكثر الخير ويتقلص الشر، وتنتشر الفضيلة وتنحسر الرذيلة= وحيث أنك ركبت المنبر فتأهب لحمل ما كُلِفت به من أمانة، قبل أن تكون يوم القيامة عليك خزي وندامة.
•    الخطيب الناجح هو من كان حاضر الذهن للخطبة، مرتاح البال، مطمئناً، فصيح اللسان، مجانباً اللحن، جهوري الصوت، متمهلاً، ذو عقل راجح، وملاحظة دقيقة، عارفاً بطباع الناس، جريئاً شجاعاً، صادق اللهجة، ودوداً، نزيهاً، متواضعاً رفيقاً، مسابقاً الناس للمكارم، مجانباً لسفاسف الأمور، مديم النظر في كتاب الله، ملماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالماً بالأحكام الفقهية، ذو اطلاع على ما يتحدث عنه من موضوعات الخطبة، ذو حصيلة علمية مواتية لكل موقف.
•    الزم طريق التعليم والتوجيه، وابتغ بنصائحك وجه الله، ولا تستوحش من قبولها، فإنما أنت مذكر لست على الناس بمسيطر، ولا تتخذ من نفسك جابياً للزكوات، ولا جامعاً للصدقات، ولا تُحوِّل خطبتك إلى محطة إخبارية، أو مكاناً للتحليلات الإعلامية، أو التكهنات السياسية، ولا متحدثاً رسمياً عن الجمعيات السياسية، فإن ذلك يمسخ الدين، ويفرق الجمع، ويشتت الشمل.
•    جدد وجاهد نيتك فللنفوس علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، بل القلوب تتقلب وتتحول في قصودها ونياتها في المجلس مرات، فأيقن أنه لا يجتمع الإخلاص في القلب، ومحبة المدح والثناء على النفس أو الطمع بما في أيدي الناس؛ فازهد في مدح الناس، وإياك والطمع بما في أيديهم، يسهل عليك الإخلاص.
•    اجعل خطبك كلّها داعية إِلى الله، وإِلى صراطه المستقيم، مذكِرة بأصول الخير وفروعه، ومحذرة من الشر أصوله وفروعه، مرسخة لمعالم التوحيد، محذرة من مظاهر الشرك والتنديد، داعية للسنن منفرة من البدع، مرغبة في الخيرات، مرهبة من الوقوع في المنكرات، موضحة للحلال والحرام، مذكرة بما يحتاج إليه الناس من أحكام، مصححة لمفاهيم مغلوطة، أو مخالفات شائعة، مرسخة لمبدأ الاجتماع والائتلاف، ونابذة للفرقة والاختلاف، داعية لمنهج السلف، نابذة لمناهج الخلف، تنادي بلزوم السنة، ومخالفة التطرف والحزبية، موازيةً بين البشارة والنذارة، ومراعية للمصالح بتكثيرها وللمفاسد بتقليلها.
•    موضوع خطبتك هو لبها، ومحور تفاعل السامعين، فاحرص على حسن الاختيار، وراع حاجة المخاطبين، وكن واضح الطرح، متسلسل الأفكار، مدعِماً فكرتك بالاستدلال، مراعياً وحدة الموضوع وترابطه، وإياك والعموم والتشعب والغموض والاسترسال الممل، ولا تتجاوز حدود علمك، وتجنب الخلافيات والطبوليات: الغرائب التي يُضرب لها الطبل، وحدث الناس بما يعرفون؛ فما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تفقه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
•    غذ خطبتك بنصوص الوحي وآثار السلف، وتفسير الأئمة، وفتاوى وشروح العلماء الراسخين، مستشهداً بالحوادث التاريخية الصحيحة، غير مكثرٍ من الشعر،  مجانباً للمكذوبات والأحاديث الموضوعات، والقصص الواهيات.
•    الخطيب البارع يأخذ لُب سامعيه بلباقته وتنوع إلقائه وأساليبه، فإضافة إلى طرحه الشيق، تجد صوته متردداً بين الانخفاض والارتفاع، مخاطباً العقل تارة، ومحركاً العواطف تارة، مستعملاً الاستفهام  وضرب الأمثال وتلمس الحِكم والأسرار ومعايشة الأحداث والإشارة وهكذا بحسب ما يقتضيه الحال ويتوافق مع المقام، من غير تقمص لشخصيات الآخرين، ولا تكلف في تطبيق تلك الأساليب.
•    الزم الهدي النبوي في الخطابة؛ فقد كانت خطبته صلى الله عليه وسلم قَصداً، وكان يخطب قائماً، على منبرٍ، خطبتين يفصل بينهما بجلوس خفيف، و(كان إِذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم)، يكرر الكلام أحياناً حتى يُفهم عنه.
•    الإلقاء الارتجالي للخطبة أحسن أثراً وأكثر تفاعلاً، إن سُبق بإعداد محكم، وتحضير متقن، والإطالة في الخطبة مخالف للسنة، ومضيع لمقصود الخطبة، ويبعث على الملل والسآمة، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات، ومئنة فقه الرجل قصر خطبته وطول صلاته.
•    اشرع بعد السلام بخطبة الحاجة: فقد جمعت محاسن الكلام وجوامعه: من الحمد والثناء على الله تعالى، والإقرار بالشهادتين، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى الله تعالى والتحذير من المحدثات.  
•    ألفاظ الخطبة ينبغي أن تتسم بالفصاحة والوضوح، سهلة الفهم بعيدة عن التشدق، غير مبتذلة بالألفاظ العامية التي تُسقط هيبة الخطبة ورونقها، سجعها خفيف على السمع، مجانب للركة.
•    كن حسن النقد، لطيفاً في النصح، رفيقاً في الطرح، حكيماً في توجيه ما يحصل للناس من منكرات تراها أثناء الخطبة، مستعملاً (ما بال أقوام)، إلا عند الحاجة.
•    اجعل لك هدفاً مستمراً في خطبك، بطرح موضوعات تربط الخلق بخالقهم، وتعالج سلبياتهم، وتشتمل على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، فليست العبرة بما قلت لهم، ولكن بما ينتفعون به، ولا تستعجل هدايتهم، وسل الله العون على إصلاحهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه د. صلاح بن محمد موسى الخلاقي
22/6/1439 هــ  9/3/2018م