التلخيص الرائد في نقض سهام التأويل الفاسد - للشيخ د. صلاح الخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

(التلخيص الرائد في نقض سهام التأويل الفاسد)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

إن من حكمة العزيز العليم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فمعرفته أشرف المعارف، وأعلى المطالب والمقاصد؛ وعلى هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها، فإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود.

ويمكن إجمال طرق معرفته جل جلاله في طريقين([1]):

  1. ما فطر به العباد على معرفته، ثم أخذ عليهم الميثاق على ذلك، ثم بث سبحانه الدلائل المعرِّفة به وهدى الخلق إلى الاستدلال بها، وجماعها أمران: النظر في آياته المخلوقة، والتفكر في آياته المسموعة.

  2. ما تضمنته أخباره الصادقة من صفات جلاله ونعوت كماله، وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر والإيمان به أصل الإيمان بما عداه، واشتمال القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوع الدلالة بها على ثبوت مخبره أعظم من تنوعها في غيره؛ وذلك لشرف متعلقه وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته، ولذا كانت الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبين من غيره، حتى إن فهم معاني آيات الصفات أيسر من فهم معاني آيات الأحكام([2]).

وهذا من كمال حكمة الرب تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه أنه كلما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى كان بذله لهم أكثر وأسهل، وهذا في الخلق والأمر: فإن حاجتهم لما كانت إلى الهواء أكثر من الماء والقوت كان موجودا معهم في كل مكان وزمان، وهو أكثر من غيره، وكذلك لما كانت حاجتهم إلى الماء شديدة، إذ هو مادة أقواتهم وفواكههم وشرابهم كان مبذولا لهم أكثر من غيره، وهكذا الأمر في مراتب الحاجات، ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم فوق مراتب هذه الحاجات كلها، فإنه لا سعادة لهم ولا فلاح إلا بمعرفته وأن يكون وحده غاية مطلوبهم.

وقد عمد أهل الباطل إلى النصوص الشرعية، بل إلى أشرف وأجل محتواها وغالب ما دلت عليه– وهي النصوص المعرفة بأشرف المعارف سبحانه، والمخبرة بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكماله- فسلطوا عليها قانون التأول، فصار حالهم كما وصف الدارمي -رحمه الله- حال بعض أسلافهم بقوله: (وبلغنا أن بعض أصحاب المريسي قال له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا، مما لا يمكن التكذيب بها؟.. قال: فقال المريسي: لا تردوه فتفتضحوا، ولكن غالطوهم بالتأويل فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف)([3]).

والتأويل الفاسد هو من أعظم المعاول هدماً للنصوص الشرعية، وأكثرها إبطالاً للشريعة المحمدية، وهو الحصن الذي به –أهل الباطل- يتحصنون، وعكازاً عليه يتكئون، وهو الشجرة الخبيثة التي بذرتها التعطيل، وأقصانها السهام التي يخرجون بها نصوص الكتاب والسنة عن حقيقتها ووضعيتها التي دلت عليه؛ بغية التشكيك فيها، وزعزعة اليقين من قلوب المسلمين، وتشتيت الأمة إلى فرق وأحزاب، حتى أصبح كل حزب يبحث في النصوص مما يمكن تأويله وفق ما يوافق هواه وبدعته.

                       فليت شعري من أباح ذلك        وأورط الأمة في المهالك

                       فيا شديد الطول  والإنعام         إليك نشكو محنة الإسلام([4])

وتعتبر تلك السهام المسمومة بمثابة الأصول التي وضعها المتكلمون –ومن سلك سبيلهم- لبناء التأويل، فمن خلالها يهدفون: لمحاولة إزالة اليقين بنصوص الشريعة أو التشكيك بها، والعمل على إقامة العقل مقامها؛ بتقديمه والتبرير لذلك أن النصوص الشرعية مجازية لا تفيد العلم القطعي. وعلى ضوئها يستنيرون لتسديد رميهم في نقض النصوص الشرعية أو لَيِّ أعناقها من أجل موافقة ما يهوون.

ومن حفظ الله لدينه أن سخر للأمة من يكشف أستار هؤلاء الضلال، ويبين عوارهم ويزهق باطلهم، ومن أولئك الأعلام العلامة الهمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) -رحمه الله- وجزاه عنا وعن المسلمين خيراً، فقد ألف كتابه العظيم (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) فكشف فيه أستارهم وفضح مرامهم، واعتبر سهامهم طواغيت يتحاكم إليها دون الرضا بما حكم الله، ففندها وتوسع في بيان بطلانها.

ومما يجدر التنبيه عليه هو أن هذا الكتاب العظيم للإمام ابن القيم يعتبر خلاصة تطبيقية لكتب الإمام الهمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبالتحديد الكتب التالية: (بيان تلبيس الجهمية، ودرء تعارض العقل والنقل، والتدمرية، والحموية) ويدرك هذه الحقيقة من كانت له خبرة واطلاع بكلام الإمامين -ابن تيمية وابن القيم- جزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ولطول الكتاب وإسهاب المصنف فيه عمد العلامة محمد بن الموصلي (ت 751هـ) -رحمه الله رحمة واسعة- إلى اختصاره وانتخاب جملة تغني عن كليته، وتفي بالغرض المنشود منه، ومن أهم ما تميز به مختصِره وقوفه على كتاب ابن القيم كاملاً؛ فحفظ الله به ما فُقِد من أصله، ومع ذلك فلم يخل من الطول.

  وقد كانت الرغبة قديمة في استيعاب مباحثه، ولَمِّ مسائله، واختصار حجمه وألفاظه، ولا يتأتى ذلك لي إلا بتلخيصه، وتم ذلك بفضل الله ومعونته وتوفيقه عند تحضير منهجية الدكتوراه.

فجاء هذا التلخيص في مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث.

أما المقدمة: فاشتملت على ما سبق من طرق معرفة الرب تبارك وتعالى وما أخبر به عن نفسه في النصوص الشرعية، وبيان ما تسلط على هذه النصوص؛ بغية التشكيك فيها، وخطة للتلخيص.

وأما التمهيد: فاشتمل على أقسام الناس تجاه النصوص الشرعية وبيان التأويل الفاسد وحقيقته وأنواعه ولوازمه الباطلة وأسباب قبوله.

واما المباحث: فاشتملت على نقض سهام التأويل.

     المبحث الأول: نقض دعوى أن نصوص الوحي أدلة لفظية لا تفيد اليقين.

     المبحث الثاني: نقض دعوى تقديم العقل على النقل.

     المبحث الثالث: نقض دعوى المجاز.

        وفي الختام أنبه إلى أني اجتهدت في تلخيص الكتاب وتقريبه حسب الاستطاعة، وربما استخدمت كثير من عبارات المصنف البليغة، وجمعت بعض مسائله إلى بعض حسب الإمكان، وقد وسمت هذا التلخيص: بــ (بالتلخيص الرائد لنقض سهام التأويل الفاسد)، وهو عمل بشري قصد فيه الملخِص نفع نفسه، ثم بدا له إظهاره حتى ينتفع به من يطلع عليه، ويبين للملخِص موضع الزلل وينبهه على موضع الغفلة والخطل.

اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واجعل جميع أعمالنا خالصة لوجهك، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وأنت نعم المولى ونعم النصير.

                                               كتبه:  صلاح بن محمد الخلاقي


([1]) انظر: أدلة صفات الله ووجوه دلالتها وأحكامها ص (31-71).

([2]) ولذلك تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبينها الله سبحانه وتعالى ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس يوقع الراسخين في العلم. الصواعق (1/365).

([3]) فبنوا هذا المذهب على أصلين: أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه، والثاني: أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله. فنتج من هذين الأصلين: استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن رسول الله r كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه.

([4]) مقتبس من أبيات (سلم الوصول) للعلامة حافظ حكمي رحمه الله.