من أعلام أهل الحديث: العلامة وصي الله عباس -المدرس بالمسجد الحرام-

من أعلام أهل الحديث: العلامة وصي الله عباس -المدرس بالمسجد الحرام-

النفوس تتطلع لقراءة سير العلماء العاملين؛ فهم أسوة في العلم والعمل، ومثالاً يُحتذى به في الجد والاجتهاد، ومن أولئك عالم لطالما سُمع دوي صوته في جنبات المسجد الحرام مقابل الكعبة المشرفة مذ حوالي ربع قرن، وهو فضيلة العلامة الـمُحدث وصي الله عباس، وقد أكرمنا الله في مملكة البحرين بإقامة دورة علمية لفضيلته، وتشرفنا فيها بالحضور للشيخ وسماع شيء من سيرته، وقد رغب بعض الأفاضل تدوين ما تيسر من ذلك، إذ هو من البر به من جهة، ومن قبيل ربط الناس بعلمائهم من جهة أخرى، فأقول مستعيناً بالله:

هو فضيلة العلامة الـمُحدث وصي الله بن محمد عباس بن أحمد عباس، ولد سنة 1948م، وهو فيما نحسبه من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، صاحب التصانيف البديعة، والتحقيقات الرصينة، معروف بالدعوة للسنة والنفاح عنها، والتحذير من الأهواء والبدعة، مشهور بالحض على الاتباع ونبذ التعصب والتقليد، داعية للاجتماع ونبذ التفرق والتحزب، ومؤلفاته ودروسه ومحاضراته وندواته التي يعقدها –بالعربية أو الأوردية- شاهدة بذلك.

ولا غرابة فهو سليل أهل الحديث في الديار الهندية، نشأ على حفظ القرآن والسنة والعمل بهما وفق منهج السلف الصالح، درس في الجامعة السلفية، وأدرك جملة من كبار المحدثين فيها كالعلامة المحدث نذير أحمد حسين وغيره من أهل العلم والفضل.

ثم وفقه الله للمضي قُدماً في مضمار العلم بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحق بالصرح الشامخ: الجامعة الإسلامية ومنها حصل على درجة البكاليوريس، وكانت هذه الحقبة من أجمل فترات حياة الشيخ؛ إذ أدرك جملة من كبار أئمة هذا العصر كالعلامة المفسر الأصولي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله ودرس عليه آداب البحث والمناظرة، ومقدمات منطقية، ومجالس في التفسير، وتأثر كثيراً في هذه الحقبة بفضيلة العلامة المحدث حماد الأنصاري رحمه الله، خصوصاً في تخريج الأحاديث والبحث والتنقيب عنها والحكم عليها صحة وضعفاً، والعناية بالمخطوطات والكتب، ومذ ذلك الحين بدأت ملكة الشيخ الحديثية تربو، وكان لتخريجات المحدث الألباني أثر بالغ، ولأجل ذلك كان حريصاً على حضور لقاءاته ومجالسه وسؤاله والاستفادة منه.  

كما التقى بفضيلة العلامة المغربي تقي الدين الهلالي ولازمه ملازمة الولد لوالده؛ خدمه في بيته سنتين وتأثر به في شدة التمسك بالسنة، وبعنايته بجانب اللغة والأدب والشعر، وقد سايره الشيخ في جملة من الأسفار الدعوية التي حقها أن تُفرد في مؤلَّف مستقل.

كما استفاد الشيخ من الإمام ابن باز رحمه الله والشيخ صالح العراقي وعلماء آخرون يعسر المقام عن عدهم، وكان لهؤلاء العلماء الأجلاء الدور البارز في تكوين شخصية الشيخ وتميزه على أقرانه، وعلو كعبه خصوصاً في جانب اللغة والحديث وعلومه وأصول الدين وعلم الجدل والمناظرة.

وفي مرحلة مبكرة من حياة الشيخ كانت له جهود دعوية مباركة في توعية الحجيج والترجمة وإلقاء المحاضرات والدروس، إضافة إلى السفرات الدعوية إلى مصر واليمن وأنحاء من الهند وبريطانيا.

ولما فُتح قسم الدراسات العليا بمكة المكرمة انتقل الشيخ لتكملة مشواره العلمي والعملي فحصل على الماجستير في عام 1397هــ، ثم الدكتوراه في عام 1401هــ، وعنوان رسالة الماجستير: (الضعفاء والمجهولون والمتروكون في سنن النسائي)، ورسالة الدكتوراه: (فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل -تحقيق).

وقد أصبح الشيخ ذا دراية بأخص علوم الحديث كعلم العلل، وهذا ظاهر في تحقيقه لكتاب: (العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد-تحقيق)، وللشيخ بحث في هذا المجال بعنوان: (علم العلل ودورة في حفظ السنة) دُعي للمشاركة ضمن ندوة السنة بالمدينة المنورة، وكذلك له باع في علم الرجال وعلم الجرح والتعديل وغيرها من العلوم.

ومن جالس الشيخ لمس حرصه على نشر فقه أهل الحديث ولزوم التمسك بما كان عليه السلف الصالح في الاعتقاد والعبادات والمعاملات وهذا ظاهر لمن تأمل دروس الشيخ ومحاضراته، وله أبحاث نفيسة في هذا الباب منها: (الاتباع وأصول فقه السلف)، و(فقه أهل الحديث خصائصه ومميزاته)، و(تحقيق الكلام في قراءة الفاتحة خلف الإمام)، ومن البحوث في باب المعاملات: (أصول العمل الاقتصادي في ضوء الكتاب والسنة).

ولم تثن الشيخ هذه الأعمال عن الاستمرار في السلك الدعوي، فقد عُيِّن في تلك الفترة ضمن توعية الجاليات في موسم الحج والعمرة، ورُشِّح من قِبل كلية الشريعة للتدريس في معهد الحرم المكي، والتقى في هذه الفترة بفضيلة العلامة عبدالله بن حميد رحمه الله وكانت له معه مباحثات، وكان الشيخ ابن حميد يقول: (لا تفرطوا بوصي الله)، وكذلك كانت علاقة الشيخ بالعلامة عبدالله السبيل رحمه الله وطيدة، ولشدة الثقة به عُيِّن مستشاراً لرئيس شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وعضواً في لجنة تجديد أعلام الحرم المكي الشريف، وله كتاب عظيم النفع غزير الفوائد جمع فيه الروايات التأريخية والأحكام المتعلقة بالمسجد الحرام موسوم: بــ(المسجد الحرام تاريخه وأحكامه) طبع في مجلدين.

وقبل ذلك عُين للتدريس في كلية الشريعة التي صارت بعدُ (جامعة أم القرى) وبها عُين أستاذاً، وللشيخ بصمات لا تُنسى في هذه الجامعة العريقة، فإضافة إلى التدريس والإشراف على الرسائل العلمية، فمناهجها سواء لمرحلة البكاليوس أو الماجستير أو الدكتوراه كان عضواً بارزاً في إعدادها، كما أن جل مشايخها للشيخ عليهم مِنة بعد توفيق الله ومنته، وتم التعاقد مع الشيخ للتدريس في المسجد الحرام منذ 1419هــ، وله إشراف مباشر وغير مباشر على جملة من المشاريع الدعوية في الهند خاصة، نسأل الله أن يبارك له في علمه وعمله.

وللشيخ خلال حميدة لمسناها منه قلَّ أن تجتمع في غيره، فهو غيور على السنة، كريم النفس، ذو تواضع جم وتؤده، عفيف اللسان، رفيق حريص على طلابه، كل من جالسه أحبه؛ لا يُـمل حديثه، ولا تكاد تفارق البسمة محياه، عُرف ببره بمشايخه فوجد أثر بركة ذلك في جميع مراحل حياته العلمية والعملية، فكان الخير يُساق إليه سوقاً، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله العظيم أن يبارك في حياة الشيخ، وينفع به الإسلام والمسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه

د. صلاح بن محمد بن موسى الخلاقي

4/ 11/ 1440 هـــ 7/ 7/ 2019 م

تحميل الملف المرفق: