صور من حياة التخذيل والمخذلين - للشيخ د. صلاح الخلاقي

بسم الله الرحمن الرحيم

صور من حياة التخذيل والمخذلين

 

إن المتأمل في حال المناوئين للعقيدة السلفية يجد أن من أبشعهم: صنفاً ارتضوا التلون والاضطراب، والتخذيل والتشغيب، والتمييع والمداهنة، فلا بالبدعة الصريحة ظهروا، ولا للسنة النقية نصروا، وغالب ظهورهم بلباس الإنصاف وترك الغلو والإجحاف -زوراً وتلبيساً-، سلطوا سهامهم على الحق الصريح وأهله، حتى صاروا خنجراً في خصر الدعوة السلفية، وخُدَّاماً للطرق الحزبية، جمعوا لأهل الأهواء ما لم يحسنوه، وقعَّدوا لهم ما لم يتوصلوا إليه.

إنهم أهل التذبذب والتخذيل للحق وأهله، وسأضرب نماذج متنوعة على تمييع مسائل الاعتقاد عند هذا الصنف؛ ليتضح للقارئ الكريم أن ظهورهم قديم وخطرهم جسيم.      

لـما احتدم الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في مسألة خلق القرآن، وثبت إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله على محاربة هذا الفكر الدخيل، في هذه الأثناء ظهرت المخذلة بلباس الورع الكاذب، فقالوا: الواجب التوقف، فلا نقول بقول أحمد ولا بقول المعتزلة،

·       فأوهموا الناس أن السنة التي أظهرها أحمد إنما هي من كيسه.

·       وأوهموا الناس أنهم الوسط؛ فهم من أخذ بالعدل والإنصاف.

·       وقصدوا بتصرفاتهم التهويش[1] على الحق وأهله.

·       ولم يقفوا عند هذا الحد، حتى طعنوا فيمن نصر الله به السنة، ورموا أهل السنة بتقليد أحمد والتعصب له، وقد انطلت هذه التهمة على الكثير.

وقد أكد هذه الحقيقة أبو بكر الخلال -رحمه الله- حيث قال: (بُلِينا بقوم جهال، يظنون أنهم علماء، فإذا ذكرنا فضائل أبي عبدالله، يخرجهم الحسد إلى أن قال بعضهم فيما أخبرني ثقة عنه: أحمد بن حنبل نبيهم) السير (11/ 305).

وهكذا حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لـما فضح الله به أهل الضلال على تنوع مشاربهم، ظهر صنف ممن ينتسب إلى مدرسة ابن تيمية يدَّعون التوسط ومذهب السلف، ونصرة السنة، فجمع أحدهم كرَّاساً في عدِّ مثالب هذا الإمام الهمام، فكشف عن سوء طويته، ومكره وتخذيله للسنة التي نصرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطلابه، قال ابن شيخ الحزاميين أحمد بن إبراهيم الواسطي ت711هــ رحمه الله كاشفاً هذه الحقيقة: «وأما من عمل كراسة في عدِّ مثالب هذا الرجل [يعني شيخ الإسلام ابن تيمية] القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئاً من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل، بل المقصود تلك المثالب، ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحداً واحداً في خلوة يوقف بذلك هِـمَمهم عن شيخهم، ويريهم قدحاً فيه، فإني أستخير الله تعالى، وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل؛ وأقول انتصاراً لمن ينصر دين الله بين أعداء الله في رأس السبعمائة، فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن، كما قال ورقة بن نوفل: (لئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً)، ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى ..».

ثم ذكر رحمه الله أن مثل هذه السهام التي تُصوَّب إلى مَن سخَّر نفسه لحرب أهل الأهواء تخرج من أحد رجلين:  

الأول: رجل غابت عنه المفاسد التي يجنيها من خلال ردوده، والتي منها:

1.   تخذيل الطلبة عن الاستفادة من أهل الحق.

2.   تشفي أهل الأهواء والبدع بمثل هذه المثالب.

3.   الوقوع في الظلم والجهل.

الثاني: رجل تغير حاله وقلبه، وفسد سلوكه بحسد كان كامناً فيه، وكان يكتمه برهة من الزمان، فظهر ذلك الكمين في قالبٍ صورته حق، ومعناه باطل.

        ثم حذر رحمه الله من مجالسة أو مجادلة من نال من الشيخ، بل إنه اعتبر اتهام الشيخ في دينه اضطراب في العقل، ونقصان في الفهم، وقصور في المصداقية، ونقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه.

ثم قال: «فمثل هذا الرجل في هذا الزمان، وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه، أيقال له: لـِمَ تَردُّ على الأحمدية؟ لـِمَ لا تعدِل في القسمة؟ لـِمَ تَدخل على الأمراء؟ لـِمَ تُقرِّب زيداً وعمراً؟

أفلا يستحيي العبد من الله يذكر مثل هذه الجزئيات في مقابلة هذا العبء الثقيل؟ ولو حُوقِـق الرجل على هذه الجزئيات، وجد عنده نصوص صحيحة ومقاصد صحيحة، ونيات صحيحة تغيب عن الضعفاء العقول، بل عن الكمل منهم حتى يسمعوها.

أما رده على الطائفة الفلانية أيها المفرط التائه الذي لا يدري ما يقول، أفيقوم دين محمد بن عبدالله الذي أنزل من السماء إلا بالطعن على هؤلاء؟! وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل لا يقول مثل هذا إلا تائه، أو مسن أو حاسد...

وأما تقريب زيد وعمرو فلمصلحة باطنة لو فتش عنها مع الإنصاف، وجد هنالك ما يرى أن ذلك من المصلحة، ونفرض أنك مصيب في ذلك؛ إذ لا نعتقد العصمة إلا في الأنبياء، والخطأ جار على غيرهم، أيذكر مثل هذا الخطأ في مقابلة ما تقدم من الأمور العظام الجسام؟

لا يذكر مثل هذا في كراسة ويعددها ثم يدور بها على واحد واحد، كأنه يقول شيئاً إلا رجل يسأل الله العافية في عقله، وخاتمة الخير على عمله، وأن يرده عن انحرافه إلى نهج الصواب بحيث لا يبقى معشره يعيبه بعلمه، وتصنيفه من أولى العقول والأحلام». التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار ضمن الجامع لسيرته (ص: 126-131).

فكم جمع هذا النقل النفيس من خِلَالٍ اتصف ولا زال يتصف بها أهل التخذيل، يدركها من عافاه الله من ذلك أجارنا الله وإياكم منه.

ومن صور المخذلين في توحيد العبادة أُولئك الخصوم لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، والذين ادعوا التوسط بين شرك القبورية ودعوة التوحيد، ومن آخرهم ذلك الدعي حسن بن فرحان المالكي؛ فقد صنف كتاباً سماه: (محمد بن عبدالوهاب داعية إصلاحي وليس نبياً)[2]، فسلط سهامه التي سلم منها الرافضة القبورية إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأتباعه، مستخدماً التلون والافتراء المبطن، الذي يجمع بين الطعن الشنيع والاتهام الفظيع، والثناء العاطر والمدح الماكر.

وهذا في الحقيقة من السمات والمسالك التي يتصف بها هذا الصنف مما يضاف إلى ما سبق، فحري بهم أن يقرأوا جزءاً نفيساً لابن عساكر رحمه الله سماه: (ذم ذي الوجهين واللسانين) طبع ضمن مجموع فيه عدة أجزاء لابن عساكر.

وهكذا تستمر عجلة التخذيل والتشغيب على الحق وأهله في هذا العصر على شتى مسائل الاعتقاد، وخصوصاً مسائل الإمامة والخروج على الحكام والعمليات الانتحارية والتفجيرات.

ومما ابتلينا به في هذا العصر، تلك الهجمة الشرسة على بعض العلماء الذين لهم اليد الطولى في هذا الباب ومنهم العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله وختم له بالحسنى.

        فقد تظافرت جهود المخذلين للنيل منه ومن أتباعه كما سبق للأئمة قبله؛ فتارة يطعنون فيه صراحة زاعمين أنه اخترع منهجاً جديداً، وتارة يتهمون أصحابه بالتعصب والتقليد له وأنهم جامية مداخلة، وتارة بالتباكي على أعراض الناس، وتارة بالكذب والتدليس، وتارة بدعوى التصحيح وترك التجريح، وتارة بدعوى تبيين الحسنات وترك القبيحات، وتارة بزعزعة الثوابت والتهوين من الخلاف في المسلمات، وتارة بالاعتماد على المجملات، وتارة باستدرار العواطف ومحاولة كسب العامة والتكثر بهم!! وغير ذلك من المسالك التي شغبوا بها على الحق وأهله.

والمقصود أن مراد المخذلين إيهام الناس أنهم هم  الوسط؛ وهم أهل العدل والإنصاف، ولا تسل عن طعنهم في العلماء؛ باسم الدفاع عن العلماء، فالعلماء الناصحين لحومهم مطبوخة، وعلماؤهم الذين صدرت منهم أخطاء -على حد تعبيرهم- لحومهم مسمومة، غالطوا في المفاهيم، وكانت غيرتهم على الأشخاص أعظم من غيرتهم على العقيدة، فيا سبحان الله كيف يعيد التاريخ نفسه، (إنها السنن).

ومما يؤكد شدة خطر هذا الصنف أنهم يدَّعون مذهب السلف، وهم بذلك من أبعد ما يكون عن انتحال مذهب السلف، فلا تغتر بهم أيها السلفي ولا بأراجيفهم، فقد بوب الإمام ابن بطة في كتاب الإيمان: (باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان)، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (مثل المنافق في أمتي كمثل الشاة العايرة بين الغنمين تصير إلى هذه مرة, وإلى هذه مرة, لا تدري أيها تتبع)، ثم قال رحمه الله تعليقاً: «كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا, لا كثرهم الله, وسلمنا وإياكم من شر المنافقين, وكيد الباغين, ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين, ولا من الذين استهوتهم الشياطين, فارتدوا ناكصين, وصاروا حائرين» الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 457).

فحري بنا جميعاً أن نحذر ونحذِّر من المذبذبين المخذلين والمبتدعين، متفائلين بوعد المعصوم صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) رواه مسلم، ومقتفين سيرة سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فهذا الحافظ ابن منده رحمه الله قال فيما روى عنه أبو يعلى: (كتبت عن ألف شيخ وسبعمائة شيخ، طفت الشرق والغرب مرتين، فلم أتقرب إلى كل مذبذب، ولم أسمع من المبتدعين حديثاً واحداَ) طبقات الحنابلة (2/ 167).

وبهذا القدر كفاية وبالله التوفيق.

 

                          كتبه

د. صلاح محمد موسى الخلاقي

16/10/1436هــ  1/8/2015م