رمضان وأهل التشكيك - للشيخ محمد كليب

رمضــــانُ وأهل التشكيك
 

      رمضان شهر تآلف القلوب، وتطهير الصدور، وجمع الكلمة على الكتاب والسنة، بعيداً عن مذهب أهل الشك والريبة، ودعاة الشتات والفرقة، الذين لم يجنِ الإسلام من ورائهم خيراً، والذين جعلوا رمضانَ شهراً لإثارة الفوضى وتشكيك الناس في صيامهم، وصلاتهم، وفطرهم؛ فهم بين ثلاث: إما مشكك في ظهور الهلال وغيابه، وإما مشكك بوقت الإمساك والإفطار، وإما مشكك في مشروعية سننه كصلاة التراويح.

      وكل هؤلاء جانبوا الصواب، وشذوا عن طريق الرسول والأصحاب، وتشكيكهم باطل مردود بنصوص ثابتة في السنة والكتاب؛ فلجهلهم وتعصبهم وقلة علمهم وبعدهم عن نصوص الشريعة وقعوا  في فيما وقعوا فيه، وفتنوا بعضاً من عامة المسلمين: فذاك يأتيك سائلاً، وآخر يأتيك مستفسراً، وغيره يأتيك متوقفاً متحيراً.

      رفقاً يا هؤلاء بأهل الإسلام، ليس من شرع محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تزعمون، ولا نصيب له مما تدعون، فزنوا الأمور بموازين الشريعة، وكونوا حكماء في تصرفاتكم، عقلاء في آرائكم واجتهاداتكم، فإن كان لكم نصيب من الحق فانقلوه بالطرق الصحيحة، وبأسلوب البيان والنصيحة، واعلموا أن مثل هذه الشكوك والظنون لا يحتاج لردها طويل وقت، ولا كثير كتابة وبحث.
       فأما من يشكك بظهور الهلال وغيابه؛ فإن الأمر قد حسمه الله تعالى في كتابه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ([1]) فإن شُهد الشهر ورُئي الهلال وجب الصوم على المسلمين في تلك البلد، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر -أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه- أن يصوم لا محالة" ([2]) ، وحسمه محمد -صلى الله عليه وسلم- في سنته بقوله: ((الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ([3])، فهذا هو الحد المطلوب منا في دخول رمضان أو خروجه؛ إن رأينا الهلال صمنا، وإن غاب عنا لغيم أو غبار أو نحوهما أكملنا العدة ثلاثين، فإن تبين لنا -قدراً- أن أنقصنا يوماً قُضيتْ والأمر يسير؛ ونحن بشر نخطئ ونصيب، وديننا يسر مبني على التخفيف، لا يشدد على الناس ولا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يدعهم في حيرة من أمرهم، فلا حاجة للتقعر والتنطع وإثارة الخلافات في رؤية الهلال وجلب الفلكيين لتتبعه بان أم لم يبن، فالصوم والفطر معلق برؤيته لا بوجوده، فإن رآه شاهد عدل من أهل الإسلام، فليخبر ولي الأمر بذلك، وليعلن للناس أن يصوموا أو يفطروا، وقضي الأمر،  فعن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: ((تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه))([4]).

        وأما الفئة الثانية، فهم المشككة بطلوع الفجر ودخول الليل، ومثل هؤلاء نقول لهم أيضاً: إن الله قد بين ذلك قائلاً: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} ([5])، فإذا طلع الفجر وبان بياضه أمسك الصائم، وإن غربت الشمس وظهر سواد الليل أفطر الصائم، وبين ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))([6])، وقد تعارف المسلمون منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بسماع أذان الفجر يمسكون، وبسماع أذان المغرب يفطرون، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذنَ ابنُ أم مكتوم)) وكان رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت([7]).

       فأين هؤلاء عن هذه الأحاديث الواضحة الصريحة في أن الإمساك والإفطار يكون مع المسلمين عند مغيب شمسهم وطلوع صادق فجرهم وسماع أذانهم الذي حُدد من قبل ولي أمرهم بناء على أوقات محددة شرعاً ضُبطت بالدقائق المعهودة اليوم بين الناس؛ فالحال مستقر ووقت العبادة واضح وبين، فكيف تتقبل نفوس هؤلاء أن يضعوا الطعام والشراب بعد صلاة الفجر زعماً منهم أن الفجر لم يطلع، وأن المسلمين كلهم جهلوا ابتداء صومهم وفطرهم، وعامة الناس يرون ذلك ويستنكرونه!  فلم يترك هؤلاء لشهر الصيام تعظيماً ولا لجماعة المسلمين حرمة.

     هذه من غرائب الدهر، وعجائب الزمن، والأغرب أن مثل هذه التصرفات ينسبونها للسنة وعلمائها، فلا يُظن أن عالماً سنياً عارفاً بأحكام الصوم والفطر، ملازماً لجماعة المسلمين يجيز مثل هذا الفعل، ومما يُعرف عن علماء أهل السنة أنهم على الضد من ذلك: يدعون للتمسك بالسنة، ولزوم جماعة المسلمين، وترك الشذوذ وتتبع الغرائب، ويحثون على الاجتماع حول ولي الأمر فيما أصاب، وبذل النصيحة له فيما أخطأ، ويسعون لإطفاء الفتن، ونبذ الشرور بأنواعها، هذا المعلوم من علمائنا، وأما هؤلاء القوم فهم دعاة فتنة وشر، يضللون أهل الإسلام بشواذ أفكارهم، وطيش وحماقة أفعالهم، وليست هذه بأول مسألة يشككون الناس فيها، بل هناك الكثير من المسائل التي خالفوا فيها إجماع المسلمين وهدي السلف الصالحين، هدانا الله وإياهم لمعرفة الحق والصواب.

       وأما الفئة الثالثة فهم قوم يشككون في مشروعية السنن، ويمنعون الناس من خيرها، فقالوا عن صلاة التراويح: إنها ليست من هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-  وأنها محدثة ضلالة، وقد سبقتهم الرافضة والخوارج في هذا الرأي فعطلوا مساجد الله في رمضان ومنعوا الناس من قيامه، ومثل هؤلاء: إما جهلة بنصوص الشريعة، وإما دعاة فتن وتفريق للمسلمين كسابقيهم، ولا ضير ولا جديد في الأمر، ولنخاطبهم على قدر عقولهم، ونقول لهم نحن نعمل بما دلت عليه سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وما وصلنا من صحيح فعله وفعل أصحابه -رضي الله عنهم- الآخذين عنه، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم صلى ليلة، وليلة بعدها، وليلة بعدها، وصلى الصحابة خلفه، ثم تركها في الرابعة، فلما سئل عن ذلك قال: ((قد رأيتُ الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم؛ إلا أني خشيتُ أن يفرض عليكم))، وكان يُرغّب صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان، ورُتب على ذلك الأجر العظيم، فقال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))([8])، وكان يقول: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة) ([9]) ، ولما جاء عهد الخليفة عمر -رضي الله عنه- أحياها، وجمع الناس على أبي بن كعب –رضي الله عنه-، ففي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله-.

      نصوص وآثار صريحة في مشروعية صلاة التراويح ولا مجال فيها للشك والريب؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها ثم تركها خشية فرضها، وعمر -رضي الله عنه- أحياها وجمع الناس عليها، ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..)) ([10]).

       بهذا النزر والكلمات اليسيرة يُرد زعم هؤلاء ودعواهم الباطلة في التشكيك بالواجبات والسنن، وعليهم أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، ويرجعوا عن تعنتهم وإصرارهم على باطلهم، وعلى المسلم أن يثبت على دينه ومنهجه ما دام أنه متبع القرآن والسنة على فهم سلف الأمة، والله تعالى إنما يحاسبك على اتباعك لهما، لا على رأي فلان وفلان، قال تعالى: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" [الأنفال: 46]، وقال: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" [النساء: 115]، والله الهادي والموفق للصواب، والحمد لله رب العالمين.

 

كتبه: أبو أيوب محمد مطهر كليب

تأريخ: 5/ رمضان/ 1435هـ، الموافق: 22/6/ 2015م

 


[1]))  البقرة: آية  185.

[2])) تفسير القرآن العظيم: (1/ 503).

([3]) متفق عليه.

[4])) رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح.

([5]) سورة البقرة: آية 187.

([6]) متفق عليه.

([7]) متفق عليه.

[8])) متفق عليه.

([9]) رواه أحمد والترمذي وصححه

([10])  رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.