بيان الأدلة على أن صيام يوم عرفة سُنة، والرد على من قال إنه بدعة - للشيخ أسامة الواعظ

بسم الله الرحمن الرحيم

( بيان الأدلة على أن صيام يوم عرفة سُنة، والر على من قال إنه بدعة )

 

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فقد وقفت على مَنشورات لبعض المَفتونين المُنتَسِبين -بالباطل- إلى العلم في بلادنا؛ تشتمل على تشكيك العامة من أهل الإسلام في صيام يوم عرفة خصوصا، وفي بقية الأيام العشر الأُوَل من ذي الحِجة عموما، والتَّشغيبِ على الناسِ في هذه الأيام الفَاضلة بما يَضُر ولا ينفع، وقد استعملوا في ذلك ألاعيبَ وتدليساتٍ كثيرةٍ، زخرَفوها بأقوالِهم، وأشغَلوا بها بعضَ العامَّة عن العِبادة، وحَرَفوهم عن جادَّةِ الصواب.
فهؤلاء لو أنهم انشَغَلوا بِدُنياهم عن هذا الكلام لَكان خيراً لهم وأنفَع، بل لو اشتغلوا بالبَطالة لكان أقل ضَرراً من التَفَوُّه بمثل هذه التُّرَّهات التي شَدُّوا الهِمة في نشرها وتعميمِها على الناس، بل والدعوة المُلِحَّةِ إليها، وعَقدِ الوَلاء والبَراء عليها.
وقد رأيتُ أن أكتُبَ هذا المَقال، نُصحاً لِعُموم الأمة وكَشفاً لبعضِ حِيَل أولئك الأغرار وتدليساتِهم في هذا الموضوع، أجيب فيه على أهم شُبهاتِهم الواهية على عُجالة، فإن أمثالَ هؤلاء لا يُقنِعهُم الدليل، ولا ينفَعُهُم الرأيُ الصَّقيل، وإنما هي تَبَعِيَّة عَوجاء، وتقليدٌ أعمى في ثوبِ السُّنة والاتِّباع.
فرأيتُ أن أشرَعَ في ذِكر دليلِ صيامِ العَشر، ثم صيامِ عَرَفة مع التَّنبيه على شُبهاتِهم ونقضِها باختِصار، والله ولي التوفيق.

فأقول ومن الله التوفيق والقَبول:

أما مسألة صيام العشر الأُوَل من ذي الحِجَّة فدليلها:
حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ) قَالُوا: وََلا الْجِهَادُ؟، قَالَ: (وََلا الْجِهَادُ، إَِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)
رواه البُخاري في صحيحه.
وفي روايةِ الترمذي وأبي داود: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ)

وهو حديثٌ صحيحٌ استَدَل به أهلُ العِلم على فضل العِبادة عُموماً في هذه الأيام العشر الأول من ذي الحِجَّة، ولا شكَّ أن الصيام أحدُ العباداتِ المَشروعةِ فيها، ودلالَتُهُ على ذلك ظاهرة، إذ الصومُ من أفضلِ الأعمالِ الصالحةِ التي يُتَقرَّبُ بها إلى الله تعالى، وقد جاء في الحديث القُدسي المُتَّفَقِ عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: (كل عَمَلِ ابن آدَمَ له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به).
فهو مَشروعٌ وإن لم يأتِ
 حَديثٌ فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو أمر بالصيام تحديداً.
لأن هذا الحديثَ عامٌّ في جميع العِبادات، ومن خَصَّصَ الصيام فيها بالنهي يَحتاجُ إلى دليل.
فمن يقول إن الصيام غير مشروع، كأنه يُفَسِّر قوله عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْر) بِجَميع الأعمال إلا الصَّوم!
فما الدليل على استِثناء الصَّوم؟! ثم إن ذلك مُضطَرٍدٌ في جميع العِبادات فَيوشِكُ أن يأتي قائل منهم فيقول:
ما الدليل على تخصيص هذه الأيام العشر بقِراءة القُرآن!
وما الدليل على تخصيص هذه الأيام العشر بالصَّدَقَة!!
وما الدليل على تخصيص هذه الأيام بالنوافل وقيام الليل!!!
وهكذا تَبطُلُ جميعُ الأعمالِ الصالحَةِ، وتَمضي هذه الأيام الفاضلة بلا عمل، ويشتغلُ الناس بالبَطالة إذ لا دليل على الطاعة.. !

تنبيه:
استَدَلَّ بعضُهم بأثر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العَشر قَطُّ).
أقول:
فكذلك صَحَّ عن عائشةَ رضي الله عنها فيما رواه مسلم في صحيحه أَنَّها قالت: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ)!
فهل تقولون بأن صلاة الضُّحَى بِدعةٌ ضَلالةٌ كذلك؟
وقد بَيَّنَت أم المؤمنين رضي الله عنها في هذا الحديث السببَ في عدمِ رؤيتها النبي صلى الله عليه وسلم  يصليها حيث قالت: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ! وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ).
وهو تفسيرٌ دقيقٌ للعِلَّةِ التي لأجلها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَترُكُ بعض الأعمال الفاضلة التي قد يَحُثُّ الناسَ على فِعلِها، وهي: (خشيةُ أن تُفرَضَ على الناس).
فكذلك الحالُ في صيام العشر من ذي الحجة، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل الصالح فيها، ولكن عائشة رضي الله عنها لم تره يصومها، لأنه كان يتركُ الفِعلَ الصالِح خشية أن يُفرَضَ على الناس، فيُجمَعُ بين هذين الحديثين في صيام العشر، كما يجمع بين حديثي عائشة رضي الله عنها في الضُّحى، وهو أمرٌ واضِحٌ، يزول به الإشكالُ عمن أنارَ اللهُ بصيرتَه، وطلَبَ الحقَّ بِدَليله، وقد ذكر هذا التوجيه غير واحد من العلماء، منهم الحافظ ابن حجر في (فتح الباري بشرح صحيح البخاري)، حيث قال: (احتمالُ أن يكونَ ذلك لكونِه كان يتركُ العمَلَ وهو يحب أن يعمله، خشيةَ أن يُفرض على أمَّتِه).


كما أن صيام العشر من ذي الحجة كان معروفاً عند السلف، موجوداً في زمن الصحابة ولم يقل أحد منهم إنه "بدعة" كما يقوله هؤلاء، فقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه بإسناد صحيح أن رجلا، سأل أبا هريرة رضي الله عنه: (إن علَيَّ أياماً من رمضان، أفأصوم العشر تطوعاً؟) فقال أبو هريرة رضي الله عنه: (لا، ولِمَ؟ ابدأ بحق الله، ثم تطوع بعدُ ما شئت).
فنهاه عن البدء بالتطوع قبل أن يقضي ما عليه من صيام رمضان، ثم قال له: (تطوع بعد ما شئت)! ولم يقل له: (لا تفعل هذه البدعة الشنيعة)، فلو كان ذلك من البدع -كما يزعم هؤلاء- أكان أبو هريرة رضي الله عنه سيسكت عن بيانها!

 

وأما صيامُ يومِ عَرَفة فعليه عدة أدلة


الدليل الأول:
(الحديثُ السابِق)
لأن فيه فضلَ العملِ الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة ويوم عَرَفة منها.

 

الدليل الثاني: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ))

وهو حديث صحيح رواه الإمام مُسلِم في صحيحه.
وقد أكثر المُبطِلون من إيراد قول البخاري في تضعيف إسناده، وبالَغوا في تِكراره وتَرديده حتى تكادُ تجدُ أحدَهم ليحفظ قوله كما يحفظ أحدنا الآية من القرآن..


أقول:
وإن كان الإمام البخاريُّ ضَعَّفَ إسناد هذا الحديث؛ فقد صححه الأئمة:
مُسلم (الصحيح: 1162).
والترمذي (في سننه: 754).
والطبري (تهذيب الآثار: 1/290).
وابن خزيمة (الصحيح: 2087).
وابن حبان (الصحيح:3632).
وابن حزم (الرسائل: 3/166).
وابن عبد البر (التمهيد 21 / 162).
والبغوي (شرح السنة: 1790).
والإشبيلي (الأحكام الصغرى: 1/401).
وابن قدامة (المغني: 4/443).
والمنذري (أمالي الزبيدي: ح7).
وشيخ الإسلام ابن تيمية (مختصر الفتاوى المصرية:  290).
وابن القيم (تهذيب السنن: 2438).
وابن كثير (تفسيره: 5/415).
وابن المُلَقِّن (البدر المنير: 5/746).
وابن ناصر الدين (فضل عشر ذي الحجة: ص33).
وابن حجر العسقلاني (معرفة الخصال المكفرة للذنوب: ص52).
والسيوطي (الجامع الصغير: 5118).
والمناوي (فيض القدير: 5118).
والشوكاني (الدراري المضية: 198).
والألباني (إرواء الغليل: 952).
وابن باز (فتاوى نور على الدرب: 16/454).
وابن عثيمين (مجموع الفتاوى والرسائل:24/243).
فانظر كيف طاروا بكلامه، وأخفوا كلام كل هؤلاء العلماء الذين صرحوا بثبوت هذا الحديث وصحته.
ألَمَّـا رأيتُم قولَ البخاري يوافق أهواءكم صار كلامه دليلاً بنفسه أو نَصاً لا يَحتمِل الرَّدَّ والنِّقاش؟
وأكثرُ هؤلاء إن سألتَه عن معنى قول البخاري ذاك، وجدته لم يَفهمهُ على وَجهِه، وغايته ترديد ما سمعه ممن هم على شاكِلَتِه وحِزبِه.

 

فأقول اختصاراً لهذه المسألة:
هذا الإسناد انتقَدَه الإمام البخاري رحمه الله تعالى لأنه كان يرى أن أحد رواته -وهو عبدالله بن معبد الزِّمَّاني- لم يثبت سماعه من أبي قتادة رضي الله عنه.
وهذا على رأي البخاري منقطع لم يثبت اتصال إسناده، بينما يخالفه الإمام مسلم في ذلك، حيث يرى أنه إسناد متصل، وأن كلام البخاري غير قادح في صحة الحديث، ولذلك أورد هذا الحديث في صحيحه.
فظهر من ذلك أن هذه المسألة من المسائل الخلافية الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء، وليس أمراً خفي على الإمام مسلم وغيره من العلماء حتى يظن هؤلاء اليوم أنهم اكتشفوا أمراً عظيماً ينشرونه في كل مكان، ولا يصح الاستدلال بقول عالِم على عالِم آخر، لأن العبرة بالحجة والدليل، لا بمجرد قول أحد العلماء به.


وهذه مسألة معروفة مفصلة في كتب علم مصطلح الحديث، يرجع إليها من شاء من أهل الاختصاص، ولا يصح التشغيب بها على عامة الناس.
ثم إن الأمة قد تلقت صحيح مسلم بالقبول، ولم ينتقد أحد من العلماء هذا الحديث فيه لأكثر من 1000 سنة.. حتى جاء هذا الغِرُّ واكتشف انه حديث ضعيف وأن صيام يوم عرفة فِعلٌ مُبتَدَع يعمل به جميع العلماء من جميع المذاهب!!


هذا مع أن يوم عرفة قد دلت على صيامه أدلة أخرى، وهي كافية لوحدها في إثبات مشروعية صيام عرفة، ولكنهم يتشاغلون بمحاولة إثبات تضعيف هذا الحديث حتى يشغلوا الناس عن بقية الأحاديث الدالة عليه.

 

الدليل الثالث:
عن أم الفضل رضي الله عنها أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم ، وقال بعضهم: ليس بصائم ، فأرسلَت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره، فشَرِبَه.
رواه البخاري، ومسلم.

فكان هذا في حجة الوداع حيث شك الناس وهم واقفون بعرفة هل  النبي صلى الله عليه وسلم صائم في هذا اليوم أم مفطر؟ فأرسلت إليه أم الفضل رضي الله عنها قَدَحاً فيه (لبن) فشربه.. فعرفوا أنه مفطر.

والسؤال هنا:
إذا كان صوم يوم عرفة بدعة ضلالة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع بها الصحابة قَط كما يقولون.. فلماذا شك الصحابة إن كان صائماً أم لا ؟!
وهل يصح أن يظن بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتكب هذه البدعة الشنعاء؟
ولماذا لم يشك الصحابة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم في غير يوم عرفة؟
ما بال بقية الأيام؟ هل كانوا يرسلون له اللبن في كل يوم من أيام الحج ليتأكدوا من صومه؟
أم أنها كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه ويحث الناس على صيامه؟
إذ لا يمكن أن لايكون لصوم يوم عرفة فضل ثم لا يشك الصحابة في صومه طوال أيام الحج إلا في هذا اليوم!
فهذا واضح الدلالة على أن صوم عرفة كان مشروعاً يعرفه الصحابة فلذلك أرادوا أن يتأكدوا إن كان صائما في ذلك اليوم أم لا، فارسلوا إليه اللبن فشربه أمامهم.
وسبب فطره عليه الصلاة والسلام أنه كان حاجاً حينها، وصيام يوم عرفة غير مستحب للحجاج، بل هو بالنسبة لهم يوم أكل وشرب كما سيأتي.

ثم استمع إلى هذا الأثر -الذي رواه الترمذي، وصحح إسناده الألباني- من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن صوم يوم عرفة بعرفة؟
فقال: ( حججت مع النبي عليه الصلاة والسلام فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه، ولا آمر به، ولا أنهى عنه).

فإن كان صيام يوم عرفة بدعة ضلالة كما يقولون.. فلماذا يخصص ابن عمر رضي الله عنه عدم صومه بوقت الحج؟
ولماذا يسألونه عن صيام يوم عرفة (بعرفة) تحديداً إن كان صيامه بدعة من أساسه؟
ثم كيف يقول ابن عمر رضي الله عنه: (لا آمر به ولا أنهى عنه) وهو معروف بشدة تمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومتابعته له أشد المتابعة!!
أوُفِّقَ هؤلاء الأغرار المغمورون في هذه العصور المتأخرة للنهي عن هذه البدعة الشنعاء -بزعمهم- وصُرِفَ عنه أمثال ابن عمر رضي الله عنه وهو من هو في الاتباع والسنة؟!
أتُرتَكَب هذه البدعة الضلالة التي هي أحب إلى إبليس من المعصية في عصر ابن عمر رضي الله عنه  وبعلم منه ثم يسألونه عنها فيقول: (أنا لا أنهى عنه)!!
فنعوذ بالله من الخذلان.

وهذه قاعدة مضطردة في جميع النصوص الواردة في كراهة صوم عرفة، أو الأمر بفطره، فإن المقصود بها الحُجاجُ بعرفة فقط، لا سائر الناس.

قال الإمام الترمذي في جامعه:
(قد اسْتَحَبَّ أهلُ العلم صيام يوم عرفة، إلا بعرفة)
وهو صريح في استحباب العلماء كافةً لصيام يوم عرفة، لمن لم يكن بعرفة، فلا أدري كيف يَنقل الإمام الترمذي عن عموم العلماء استحباب بدعة منكرة شنيعة ما أنزل الله بها من سلطان!!
فنعوذ بالله من طمس البصائر...

وقال الحافظ المنذري في كتابه الترغيب والترهيب:
((اﺧﺘﻠﻔﻮا ﻓﻲ ﺻﻮﻡ ﻳﻮﻡ ﻋﺮﻓﺔ ﺑِﻌَﺮَﻓَﺔ، ﻓﻘﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ: ﻟﻢ ﻳﺼﻤﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻻ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻭﻻ ﻋﻤﺮ ﻭﻻ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻭﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﺻﻮﻣﻪ. ﻭﻛﺎﻥ ﻣﺎﻟﻚ ﻭاﻟﺜﻮﺭﻱ ﻳﺨﺘﺎﺭاﻥ اﻟﻔﻄﺮ، ﻭﻛﺎﻥ اﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ ﻭﻋﺎﺋﺸﺔ ﻳﺼﻮﻣﺎﻥ ﻳﻮﻡ ﻋﺮﻓﺔ، ﻭﺭﻭﻱ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ اﻟﻌﺎﺻﻲ، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﻳﻤﻴﻞ ﺇﻟﻰ اﻟﺼﻮﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻄﺎء ﻳﻘﻮﻝ: ﺃﺻﻮﻡ ﻓﻲ اﻟﺸﺘﺎء ﻭﻻ ﺃﺻﻮﻡ ﻓﻲ اﻟﺼﻴﻒ. ﻭﻗﺎﻝ ﻗﺘﺎﺩﺓ: ﻻ ﺑﺄﺱ ﺑﻪ ﺇﺫا ﻟﻢ ﻳﻀﻌﻒ ﻋﻦ اﻟﺪﻋﺎء. ﻭﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ: ﻳﺴﺘﺤﺐ ﺻﻮﻡ ﻳﻮﻡ ﻋﺮﻓﺔ ﻟﻐﻴﺮ اﻟﺤﺎﺝ، ﻓﺄﻣﺎ اﻟﺤﺎﺝ ﻓﺄَﺣَﺐُّ ﺇﻟﻲ ﺃﻥ ﻳﻔﻄﺮ ﻟﺘﻘﻮﻳﺘﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﺪﻋﺎء. ﻭﻗﺎﻝ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺣﻨﺒﻞ: ﺇﻥ ﻗﺪﺭ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﺼﻮﻡ ﺻﺎﻡ ﻭﺇﻥ ﺃﻓﻄﺮ ﻓﺬﻟﻚ ﻳﻮﻡ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﻓﻴﻪ ﺇﻟﻰ اﻟﻘﻮﺓ )).
فانظر إلى هذه الأقوال الكثيرة المشتملة على ذِكر اختلاف العلماء في صوم يوم عرفة لمن كان حاجاً بعرفة، ولم يُذكَر اختلافٌ بينهم في الصوم لغير الحاج، ولا تجدُ أحداً من العلماء قال: (إنه بدعة).
فإن كان صيامُ عرفة بدعةً ضلالةً لا أصل لها في الإسلام -بزعمهم- فَلِمَ حصل الاختلافُ في صومه في حق الحاج (بعرفة) خاصة؟
وهل كانت عائشة وابن الزبير رضي الله عنهما قد أحدثا في الدين بدعة شنعاء لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه بزعمكم!؟
بل تجد أمثال الإمام الشافعي مجدد القرن الثاني، والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة وأكثر الناس تحريا عن السنة وتمسكاً بها، وتحذيراً من البدع وأهلها، يستحبونه لغير الحاج، بينما حُدَثاء الأسنان في هذه العصور المتأخرة اكتشفوا أنه بدعة!

تنبيه:
استدل بعضهم بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
( يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيامُ أكل وشرب ).
رواه الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه، بإسناد صحيح.
استدل بعضهم به على بدعية صيام يوم عرفة، وهو استدلال عاطل كغيره من استدلالاتهم، مخالف لما قرره علماء الإسلام وأئمة الدين من السلف والخلف في سنية صيام يوم عرفة لغير الحاج.
وقبل الجواب عنه أقول:
قد أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه، ولم يقل أحد منهما بأن هذا الحديث دليل على بدعية صيام يوم عرفة، بل كلاهما يقولان باستحبابه..!
فلماذا؟
إذا عرفتَ السبب تبين لك الفرق بين الفقيه العالم، والجاهل المتعالم.

فالمراد بكونه عيداً في هذا الحديث: للحاج بعرفة، لا لغير الحاج، جمعاً بينه وبين بقية الأحاديث في هذا الباب، وإعمالاً للنصوص جميعاً فهو أولى من إهمالها، والجمع بينه وبين الأدلة السابقة مُقَدم على الترجيح، كما هو معلوم.
ونص أهل العلم على أن سببُ كَونِه عيداً للحجاج بعرفة: لأنه موضع اجتماعهم، فكان عيداً بالنسبة لهم خاصة، وأما سائر أهل البلدان فعيدهم يوم النحر، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه تهذيب السنن: (قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أفطر بعرفة، وصح عنه أن صيامه يكفر سنتين، فالصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه، ولأهل عرفة فطره، لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه وعمل خلفائه بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل دعاء العبد، وفيه أن يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة فلا يستحب لهم صومه)
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى عن هذا القول -في شرحه على صحيح البخاري- : (وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر).

فهذا فهم العلماء لهذا الحديث، ولم يستدل أئمة الإسلام به على بدعية صيام يوم عرفة مطلقاً كما فعل هؤلاء الأغرار.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عندما سئل عن صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ورجب؟.
قال: (أما عاشوراء وعرفة فأَعجَبُ إلي أن أصومهما لفضيلتهما في حديث أبي قتادة، وأما رجب فأحَبُّ إليَّ أن أفطر منه).
(مسائل أحمد وإسحاق: 710)
وقال الإمام ابن خزيمة في صحيحه:
(إنما كره النبي عليه الصلاة والسلام صوم عرفة بعرفات لا غيره ، وفيه ما دل على أن قوله: "صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والسنة المستقبلة" لغير الحاج).
فهذا قول راويي الحديث من الأئمة، وغيرهم من العلماء كلهم رووا هذا الحديث، ولم يفهموا منه ما فهمه أمثال هؤلاء المتعالمين في زماننا، فأي الفريقين أحق بالقبول والاتباع إن كنتم صادقين؟!

 

وأختم هذا المقال بذكر سِمات تظهر على منشورات أصحاب هذه الفتنة المنكرة والقول الشاذ، وهي سمات يشترك فيها عامة أهل الأهواء في كل عصر وبلد، ينبغي للمسلم الحذر منها ومن أصحابها:

الأولى: الإكثار من الكلام وتكراره وترديده وتزيينه واستعمال العبارات البراقة والألقاب الفضفاضة حتى يشعر القارئ بأن لكلامهم معنى عظيماً، وقصداً جليلاً وأدلةً محكمةً، وهي في الحقيقة لا تعدوا كونَها ألقابَ مملكةٍ في غير موضعها، كالقِط يحكي انتفاخاً صولة الأسد..
فهذه طريقة هؤلاء وأمثالهم يَدَعُونَ الأدلة القوية الصريحة الناقِضة لقولهم، ويتشاغَلون بالرد على أحاديث أخرى فيها مجال لشيء من النقاش، حتى يكثر الكلام ويشعر القارئ بأن كلامهم قوي مقنع، وإنما هو هباء..


وتجد أحدهم يأتي إلى كلام البخاري في تضعيف حديث أبي قتادة فيسوقه من كتب البخاري نفسه، ثم يسوقه من كتب من نقل قول البخاري من أهل العلم ثم يعيد صياغة قول البخاري ويحكيه مرات وكرات حتى يشعر القارئ أن الأمة اتفقت على تضعيف هذا الحديث.. مع أن الكلام كله كان يكفيه سطر واحد ينقل فيه قول البخاري من كتابه، ولكنه يدري أن العقلاء يَصعُبُ أن يقبلوا أباطيله فيُزَيِّنُها بالتكرار والإكثار...

 

الثانية: انتقاء كلام أهل العلم من غير منهج واضح، بل بحسب أهوائهم، فتجدهم يورِدون ما لَهُم ويَدَعون ما عليهم،، وهذه سِمَةٌ ظاهِرةٌ في منشوراتِهِم، كما يفعلون بعبارة البخاري رحمه الله تعالى في انقطاع حديث أبي قتادة، وقد رأيتُ لهم منشوراً واحداً في صفحة واحدة، كرروا فيها عبارة البخاري تلك خَمسَ مرات!!


بينما تجد أكثر من عشرين عالماً من علماء الأمة من المتقدمين والمتأخرين إلى زماننا هذا بمن فيهم علماء عصرنا: الألباني وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله جميعاً، كلهم صححوا الحديث، ولا تجد لذلك ذِكراً في منشورات هؤلاء المفتونين.
وقد وقفت لهم على منشور اقتَطَعوا فيه عبارةً للعلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى ليوهِموا القارئ أنه موافق لهم في باطلهم!


فاحذر أخي المسلم كل الحذر من أن تصدق قولاً نقلوه من كلام أحد من العلماء، حتى تقف عليه من مصدره وتقرأ ما قبله وما بعده، لأنهم أهل زُورٍ لا يوثق بنقلهم.

 

الثالثة: التدليس بذكر العبارات والألفاظ العامة التي توهم القارئ خلاف الواقع كما فعلوا في طعنهم في حديث صيام يوم عرفة فتجدهم يقولون: هذا الحديث مذكور في كتب الضعفاء.. وراويه: عبدالله الزِّمَّاني، مذكور في كتب الضعفاء أيضا، ونحو هذه العبارات...
فيشعر القارئ أن هذا الحديث ضعيف عند كل هؤلاء العلماء، ولكن الواقع الذي يعرفه المختصون في هذا المجال، أن كتب الضعفاء تذكر بعض الأحاديث الصحيحة أيضاً للتمييز بينها وبين الأحاديث الضعيفة، أو لِوُرُودِ قَولٍ يتعلق بها، فليس كل حديث ذُكِرَ فيها فهو حديث ضعيف، وكذلك فإن كثيراً من كُتُبُ الضُّعَفاء تذكر كل من تُكُلِّمَ فيه بِجَرح وإن كان إماماً ثقةً، فقد ذكر ابن عَدي في كتابه (الكامل في الضُّعَفاء) أسماء بعض الأئمة الثقات كعلي بن المَديني وغيره، بل وذَكَرَ بعض الصحابة أيضاً، وإنما قصده بذلك دفعَ الجَرحِ عنهم رضي الله عنهم، والرد على من طعن فيهم.

 

والخلاصة:

صيام يوم عرفة سنة مستحبة لغير الحجاج في عرفة، وهذا قول كافة العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم، ولا اعتبار بالأقوال الشاذة المخالفة لذلك، وأنصح المسلمين جميعاً بالإعراض عن هؤلاء المفتونين الذين ينبشون عن الشذوذات وينشرونها بين الناس بالباطل، ثم يوالون ويعادون عليها، فعليكم بلزوم علماء الأمة الكبار والمشهود لهم بالرسوخ في العلم، واتركوا كل غِرٍّ متفلت يتجرأ على دين الله بالخديعة والتدليس على المسلمين.
وصدق الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه حين قال: (لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِم، وعن أُمَنَائِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ ، فإذا أَخَذُوا مِن صِغَارِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا)

هذا ما أمكن بيانه باختصار في هذا المقام، كتبته نُصحاً لعموم الأمة، وتحذيراً ممن أثار الفتن والشبهات بين الناس، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأعوذ بالله من الخذلان، وطمس البصيرة، والقول على الله بغير علم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،


والحمد لله رب العالمين.

وكتبه
أسامة مصطفى الواعظ
المحرق / مملكة البحرين
6/ذو الحجة/1436