الشتاء ربيع المؤمن - للشيخ محمد كليب

(الشتاء ربيع المؤمن)

 

       الحمد لله الواحد القهار، يكوّر النهار على الليل ويكوّر الليل على النهار، أنزل الغيث من السماء فأنبت الكلأ والعشب وأجرى السيول والأنهار، سبحانه الواحد المتصرف العزيز الغفار، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمدٍ وعلى آله وصحبه الأبرار، ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم القرار؛

أما بعد:-

      فهذه نصيحةٌ مختصرة جعلتها تذكرة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا؛ فيها تنبيه للغافل وتذكير للناسي وتنشيط لمُريد الخير والسعادة في الدارين، ومدارها على اغتنام الشتاء وما فيه من فضل، لا سيما إذا اشتد بردُه، وعصفت ريحُه، وزادت وطأته على الناس؛ فحينئذ يغنمه الصالحون ويفطنون لفضله، فيسارعون إلى عبادة ربهم طمعاً فيما عنده من الأجر والثواب.

      أخي المسلم! إذا حلَّ عليك الشتاءُ فاعلم أن ذلك بتدبير الله وتقديره، فهو المتصرف في الكون بما فيه من تقلبات بالليل والنهار، قال تعالى: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ"[النور:44]، وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:  ((قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) [متفق عليه].

   فكيف نجعل هذا الشتاء ربيعاً لقلوبنا، وضياء لطريقنا، وسبيلاً لنيل الأجر والثواب من ربنا؟

* الجواب على ذلك: ينبغي علينا أن نتذكر أموراً:

أولاً: أن نعلمَ أن ذلك ابتلاءٌ واختبارٌ من الله -جل وعلا-:

     قد بين سبحانه وتعالى في كتابه أن الخير والشر ابتلاء وفتنة يمتحن به العباد، قال جل وعلا: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ "[الأنبياء: 35]، بل الحياة ابتلاء كلها، قال سبحانه : "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"[الملك: 2]؛ فهي ابتلاء بخيرها وشرها حلوها ومرها، فالولد ابتلاء وفتنة، والمال ابتلاء وفتنة، والأهلون ابتلاء وفتنة، والحر والبرد ابتلاء وفتنة، واللبيب من شُغل بالله عن هذه الفتن؛ وكذا فصل الشتاء وما فيه من المصاعب والمشاق إنما هو ابتلاء من  الله لعباده؛ لينظر أيحسنون أم يسيؤون؟ أيشكرون أم يكفرون؟!

    فأنت أيها المخلوق عندما أوجدك الله على هذه الأرض ليس لمأكل ومشرب ونعيم تتلذذ به وتكسب المعاش والقوت لأجله، بل لغاية عظيمة وحكمة جسيمة بيَّنها سبحانه في كتابه قائلا: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات: 56]، وأما كسب المعاش والتمتع بالنعم إنما هو تسخير من الله لنستعين به على الطاعة، وتخرج من هذه الدنيا حاملاً خير بضاعة،فهنيئاً لك إن كنت ممن علم ذلك فتنبه.

ثانياً: تقلب الليل والنهار صيفاً وشتاءً- آية من آيات الله العظيمة:

     عندما يتأمل الإنسان في هذا الكون وبديع صنعه وعظيم صانعه سبحانه وتعالى يجد أن من أعظم الآيات القاهرة والعجائب الباهرة تقلب الليل والنهار؛ فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وتارة يقصر النهار ويطول الليل، وتارة يستويان، وتارة يكون بارداً وتارة يكون حاراً وتارة يكون وسطاً بين ذلك، فمن ذا الذي يجعله برداً في حين وحاراً في حين ؟! من ذا الذي يقلبه كيف شاء؟! 

     أين أولو الألباب ذوو العقول السليمة؟! أين المتدبرون المتأملون في اختلاف الليل والنهار؟! أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! أين من يغنم هذه الآيات؟! ألم يقل الله جل شأنه: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"؟! [البقرة: 164] ، هلا قرأنا وتدبرنا قول الله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"؟![ال عمران: 190]، وقوله: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"[النحل:12] ؟!.

     أين أهل الإيمان عن هذا التدبر والتفكر؟! "أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"[النمل:86].

        الله سبحانه هو من قدر وجعل كل ذلك الاختلاف والتنوع، و في ذلك علامة عظمى على قوته وجبروته، وآية كبرى على توحيده واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، ومن اعتقد أن له مشاركاً في ذلك فقد ضل سواء السبيل ولحق بركب كفار قريش ومن قبلهم ممن علموا حقيقة ذلك فأبوا إلا الاستكبار والتكذيب، قال سبحانه: "وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"[المزمل:20] وقال: "وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"[المؤمنون:80]، وقال: "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"[فصلت:37].

       وتقلب الليل والنهار آية وعلامة  وذكرى لأهل التقوى والخوف منه سبحانه، قال تعالى: "إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ"[يونس:6].

      وتقلب الليل والنهار فرصة لزيادة الإيمان بالله سبحانه في النظر في ملكوته والتأمل في عظيم صنعه، قال سبحانه: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"[الرعد:3]، وقال: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ"[ال عمران:190]، وقال جل شأنه: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ"[النور:44].

      وتقلب الليل والنهار فيه منافع ينتفع بها الناس؛ ففيه منافع دنيوية، قال سبحانه: "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"[إبراهيم:33]، فيعلمون عدد السنين والحساب: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا"[الإسراء:12]، ويهتدون بالنجوم عند ظهورها واختفائها بالليل والنهار، قال سبحانه: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"[الأنعام:97]، ويبتغون فيهما من فضل الله فيسكنون ليلاً، ويكسبون المعاش نهاراً، قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ"[غافر:61]، وقال: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا"[الفرقان:47]، وقال: "وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)"[النبأ:9-11].

      وفيه نفع لآخرتهم من إقامة للصلاة فيهما والتسبيح والتهليل للعلي العظيم والصدقة والصيام وغيرها من العبادات، قال سبحانه: "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)"[الإسراء:78-79]، وقال: "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى"[طه:130]، وقال عن ملائكته: "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُون"[الأنبياء:20]. وقال عن عباده الصالحين: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"[الزمر:9].

     ويسلخ الله الليل من النهار، قال سبحانه: "وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ"[يس:37]، ولا يسبق الليل النهار أبدا، قال الله تعالى: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" [يس:40]، ويكوّر بعضه على بعض: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ " [الزمر:5].

       وهذا كله من فضل الله ورحمته ومنّه على عبيده، قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ"[غافر:61]، والذين يغنمون الليل هم الأشداء الأقوياء في إيمانهم، قال تعالى: "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا"[المزمل:6].

     كل ذلك لعلك أيها الإنسان تشكر الله على نعمة تقلب الليل والنهار، قال سبحانه: "وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [القصص:73]، وشكر الله على هذه النعمة هو أن تعبده وتتقرب إليه -مصلياً وحامداً وشاكراً وذاكراً ومسبحاً ومهللا وصائماً وقائماً- لا سيما إذا اشتدت وطأتهما –أي الليل أو النهار- عليك.

   إذاً فتقلب الليل والنهار بين حرٍ وبرد وطولٍ وقِصَر إنما هو آية من آيات الله ونعمة من نِعمه، جعلها سبحانه اختباراً لعبيده، فليحسن من أراد الحسنى، واللبيب من اغتنم هذا التقلب في طاعة ربه مقلب القلوب والأبصار والليل والنهار، ويزداد الفضل ويكثر الأجر والثواب إذا بردا واشتد بردهما؛ فهنا يأتي دور الصالحين، ويتنبه العارفون بالله الصابرون له المتوكلون عليه الراجون رحمته الخائفون من عقابه.

ثالثاً: دأب الصالحين في الشتاء:

     كان السلف –رحمهم الله- يستقبلون الشتاء بالترحيب، وإذا قدم عليهم فرحوا وأقبلوا على العبادة، وحثوا الناس على خيره، وأوصى بعضهم بعضاً على اغتنامه واتقاء برده، فعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أنه كان إذا أقبل الشتاء قال: (مرحبا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام و يقصر فيه النهار للصيام) [ذكره ابن رجب في اللطائف: ص558]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول لأصحابه: (ألا أدلكم على غنيمة باردة؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: الصوم في الشتاء)[حلية الأولياء 1/381]، وعن الحسن البصري –رحمه الله- أنه قال: (نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه)[ذكره ابن رجب في اللطائف: ص558]. وعن صفوان بن سليم أنه كان في الصيف يصلي في البيت وإذا كان في الشتاء صلى في السطح لئلا ينام![حلية الأولياء 3/159]، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (3/9835) بسند صحيح عن عمر –رضي الله عنه- قال: (الشتاء غنيمة العابد). ورُوِي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: (لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل، ما باليت أن أكون يعسوبا) [حلية الأولياء8/33] ويؤثر نحوه عن يزيد العجلي. ومعنى (يعسوباً) أي سيداً وقائدا.

      فإذا كان هذا هو حال السلف في الشتاء، فما بالنا نحن لا نرحب به كترحيبهم؟ ولماذا لا نستعد له كاستعدادهم، ونزداد فيه قربة إلى الله؟ فهم سلفنا وقدوتنا ونحن على طريقهم نسير، فلنصبر كما صبروا على برده وهوائه ومطره وثلجه؛ ابتغاء ورجاء ما عند الله.

    ومن جملة الطاعات التي ينبغي الحرص عليها في الشتاء –قصير وقتها وعظيم أجرها وسهلٌ أداؤها- ما يلي:

[1] عبادة التفكر في عظيم خلق الله وبديع صنعه وإحكامه وتدبيره لهذا الكون:

       قد سلف آنفا ذكر الآيات الدالة على ذلك من أن تغيُّر الليل والنهار وتقلبهما آية من آيات الله، فليتفكر المؤمن في آيات ربه وليجعل ذلك فرصة للازدياد من الإيمان، قال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)"[ال عمران] ، قال النبي –صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: ((لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) [رواه ابن حبان في صحيحه، قال الألباني: صحيح]. فلنعتبر ولندكر ولننطر ولنتأمل في السماء والغيوم والأمطار والرياح والثلوج وظلمة الليل وضياء النهار؛ وسيعلو بذلك إيماننا وتطيب أجسادنا وتصفو قلوبنا.

[2] عبادة الصيام:

     جاء في الحديث عن عامر بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) [رواه أحمد:4/335- قال الألباني: حسن] .

     نعم.. إنها غنيمة باردة لصاحبها، قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (و معنى كونها غنيمة باردة: أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كُلفة) [لطائف المعارف: ص558]، والصيام غنيمة العابدين في الشتاء كما سبق ذكر أثر عمر –رضي الله عنه-.

[3] المبادرة إلى الصلوات:

      بادر أيها المسلم إلى الصلوات فهي أثمن العبادات بعد توحيد رب الأرض والسماوات، ففي خضم البرد اجتهد أكثر فذلك سبيل لنيل الدرجات ومحو الخطايا والسيئات، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)) [رواه مسلم]، بين نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن من أسباب رفع الدرجات ومحو الخطايا والسيئات إسباغ الوضوء على المكاره، أي: في حال البرد الشديد والألم الذي يعتري الجسد فيحتاج إلى مزيد تحمل وصبر، وأجر الصابرين عند الله عظيم، قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [الزمر:10]، وقد حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، وتحمل البرد في طاعة الله خير موصلٍ إلى الجنة وخير طريق يسلكه العبد لنيل رضا المولى جل في علاه.

      وليكثر المسلم من قيام ليالي الشتاء لطولها ولعظيم الأجر لمن تحمل بردها، فهذا هو دأب الصالحين وسنة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: "قُمِ الليلَ إلا قليلاً"[المزمل:2]، وقال: "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ"[المزمل:20]، وعن أبي أمامة–رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة للإثم))[رواه الترمذي. قال الألباني: حسن]، وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على قيام الليل صيفاً وشتاءً شدةً ورخاءً؛ شكراً لله وابتغاء لفضله، ففي البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة–رضي الله عنه- قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) ! ، فهذا هو حال محمد –صلى الله عليه وسلم- في صيفه وشتائه، فما حالنا نحن؟! 

  قم لربك سبحانه ولو بركعة واحدة في مثل هذه الليالي الباردة، فلا تدري كم تكسب من الأجور، وكم يضاعف لك من الحسنات وتعلو في الفضل والدرجات؟! ، اللهم لا تحرمنا لذة هذه العبادة.

       يا أهل القرآن! ويا حاملي راية الإسلام! احرصوا على ليل الشتاء فوقته طويل، وأجره عظيم وجليل، واركعوا لله ولو بالقليل، واتبعوا سلفكم الصالح تفلحوا، فقد كان عبيد بن عمير–رحمه الله- يقول إذا جاء الشتاء: (يا أهل القرآن طال الليل لصلاتكم، وقصر النهار لصيامكم فاغتنموا) [مصنف ابن أبي شيبه:9836]، وكانوا –أي السلف- رحمهم الله يبكون على ما فاتهم من هذه الليالي فهذا عامر بن عبد قيس، لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟، قال: (ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء) [شعب الإيمان:5/ 3648].

[4] المبادرة إلى الصدقات:

     الصدقةَ الصدقةَ أيها المسلمون في العسر واليسر، فكم من مسلم بحاجة لمأكل يسد جوعه، ومشرب يروي عطشه، وقطعة قماش تستر جسده وتحميه من برد الشتاء، وتقيه أذى المطر، وتسد عليه باب الخطر والضرر.

   يا مَن منَّ الله عليك بالغنى ويسر لك الأمر وأفاض عليك من نعم الملبس والمسكن والمأكل والمشرب، جُعلت هذه النعمة عندك وسُخرت لنفعك "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا" [الاعراف:26] وقال سبحانه: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ () وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ"[النحل:80-81]، فأتم شكر هذه النعمة، وحافظ عليها، واعلم أن النعم لا تدوم إلا بشكر المنعم، وخير الشكر أن تحمده عليها، وتتعبده بالصدقة منها فتتذكر إخواناً لك في الشرق والغرب يقاسون آلام الجوع والعطش والحر والبرد وشدة ما يغشاهم بالليل والنهار، شردتهم الحروب ونزلت عليهم الهموم والكروب ورموا في العراء دون لباس يقيهم ومسكن يأويهم؛ فأعطهم من مال الله الذي أعطاك، وقدم لنفسك خيراً من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وثق بالله خَلَفَاً، قال تعالى: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ"[سبأ:39]، فربما كنت سبباً في نجاة نفس من هلاك: "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"[المائدة:32]، وخير الناس انفعهم للناس، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء،  والجزاء من جنس العمل، قال صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة))[متفق عليه].

[5] تذكر النار وعذابها:

      النار خلقها الله -جل وعلا- وهي موجودة ومعدة لأهل الكفر والطغيان، قال تعالى: "فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"[البقرة:24] ، فإذا حل البرد والحر بأرض قوم فذاك تذكير بنَفَس جهنم وما يصدر عنها من زفير شهيق، فعن أبي هريرة–رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف؛ فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير))[متفق عليه]، والزمهرير: شدة البرد. قال الحافظ ابن رجب –رحمه الله-: (ومن فضائل الشتاء أنه يذكر بزمهرير جهنم ويوجب الاستعاذة منها) [اللطائف:567].

[6] تذكر الجنة ونعيمها:

        والجنة أيضاً خلقها الله –جل وعلا- وهي موجودة الآن ومعدة لأهل التقوى والإيمان، قال تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"[ال عمران: 133].

           تحمل البرد أيها المسلم، واصبر على ألمه، واجعل نصب عينيك حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات)) [متفق عليه]، فالعوض من الله يوم العرض الأكبر، واعلم أن من نعم الله على أهل الجنة أنهم: "لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا"[الإنسان:13]. فاصبر وصابر ورابط فسلعة الله غالية، والدنيا دار فناء والآخرة خير وأبقى "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"[ال عمران:158]، ولا تكن كمن قال الله فيهم: "وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ"[الرعد:26] ، وحقيقتها كما وصفها القرآن: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"[الحديد:20] فمن رامها خسر وخاب، ومن طلَّقها فاز وأفلح، فلا تخدعنك الدنيا بزخرفها، ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال:

إِنَّ للهِ عِبَاداً فُطَنَــــــــــــــــــــا             طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا

نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُـــــــــــوا             أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَــــــــا

جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَـــــــــــــذُوا              صَالِحَ الأَعمالِ فيها سفنـا.

      هذا ما تيسر، والحمد لله على نعمة التمام، وله الثناء الحسن فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الإحسان في القول والعمل، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

                               

 كتبه: أبو أيوب محمد بن مطهر كليب

25/صفر/ 1435هـ- الموافق28/ديسمبر/2013م