الشتاء الغنيمة الباردة - للشيخ د. صلاح الخلاقي

                                                              بسم الله الرحمن الرحيم

                                   (فصل الشتاء الغنيمة الباردة)

الحمد لله المتفرد بالبقاء، والعظمة والكبرياء، يخلق ما يشاء، ويحكم بما شاء، ويمتحن عباده بالسراء والضراء، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء، وسيد الأولياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم اللقاء، أما بعد:-

معشر القراء ..

 

أقبل عليكم فصل الشتاء، محملاً بما خصه الله به من ابتلاء ، فهلموا رحبوا به كترحيب ابن مسعود رضي الله عنه إذ أثر عنه أنه كان يقول: (مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، وتأملوا كيف أن هذا الترحاب مشتمل على الشوق للقيام والصيام ، ولا غرابة في ذلك فمواسمهم كانت عامرة بالطاعات ، مشتملة على جملة من المحطات التي يتذكر بها الناسون ويتنبه لمشاهدتها الغافلون..

والله جل جلاله وتقدست أسماؤه بحكمته جعل الشتاء وما فيه من البرد في الدنيا لمصالح عباده، ويكفي أنه يذكر بزمهرير جهنم ويوجب الاستعاذة منها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لجهنم نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها وأشد ما تجدون من الحر من سمومها)).

وقد أخبر الله عز وجل عن زمهرير جهنم أجارنا الله وإياكم منها في قوله جل شأنه: ((لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً، جَزَاءً وِفَاقاً)) [النبأ: 24, 26] وفي قوله سبحانه: ((هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ))، قال ابن عباس رضي الله عنه: ((الغساق: الزمهرير البارد الذي يحرق من برده)).

ولذلك لما وصف الله أهل الجنة، نفى عنهم شدة الحر وشدة البرد الذي هو الزمهرير، وذلك في قوله جل جلاله: ((مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً)) [الانسان:13].قال قتادة رحمه الله: "يعلم الله أن شدّة الحرّ تؤذي، وشدّة القرّ تؤذي، فوقاهم الله أذاهما" رواه الطبري في تفسيره.

ولاشك أن فصل الشتاء غنيمة للمسلمين، وربيع للمؤمنين، وزاد للمتقين، وابتلاء واختبار للناس أجمعين..

قال ابن رجب رحمه الله في اللطائف: "إنما كان الشتاء ربيع المؤمن ؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه: كما ترتع البهائم في مرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات ، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام ... وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن، وقد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه"ا.هــ.

 

للأسف الشديد معاشر الفضلاء ، أن نجد كثيراً من الناس إذا دخل الشتاء، تذكر البلاء، من الحمى والسعال ونحوها من الأدواء، وغَفِل أو تغافل عما فيه من الفضائل والنعماء، فيا ترى أين هؤلاء من تلك التوجيهات النبوية من المعصوم صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: «ما لك؟ يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين؟» قالت: الحمى، لا بارك الله فيها، فقال: «لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يُذهب الكير خبث الحديد» رواه مسلم.

ولا شك أن مثل هذا الفضل العظيم مشروط باحتساب الأجر، والتحلي بالصبر، والبعد عن التسخط والجزع، واستشعار نعمة العافية ونعم الله التي لا تعد ولا تحصى.

 فاتقوا الله عباد الله..

واصبروا على ما يحصل لكم في هذا الفصل من الابتلاء بالبرد والمرض وغيره من الأدواء، وتذكروا حال إخوانكم الفقراء، بإطعام جائعهم، وكسوة عاريهم ، ورعاية محتاجهم ، والدعاء لمنكوبيهم ..

وتأملوا في آيات الله في فصل الشتاء: فالمطر والبرد والصواعق والبرق والرعد كاف في عدم الأمن من مكر الله، فلا تهملوا الذكر والدعاء عند سماع ذلك ورؤيته ..

 

وأقيموا الفرائض ولا تتساهلوا في تأديدتها، فأسبغوا الوضوء، وأقيموا الصلاة، واركعوا مع الراكعين..

تدبروا حال زمهرير جهنم وشدته، وكم مضى من العمر وغفلته!!..

                    كم يكون الشتاء ثم المصـــيف               وربيع يمضي ويأتي الخريف

                     وارتحال من الحرور  إلى البرد               وسيــــف الردى عليك منيف

                     يا قليل المقام فـــي هـــذه الدنـ                ــيا إلى كم يغرك التســــويف

                     يا طالب  الزائل حتى متـــــــــى               قلبك بالزائـــــل مشغـــــــوف

                    عجبا لامرىء يذل  لذي الدنــــ                 ـيـــا ويكفيــه كل يوم رغيـف

 

وما أحوجنا جميعاً إلى استشعار نعم المنعم سبحانه، وخصوصاً تلك النعم الجسيمة التي نتفيئ ضلالها في فصل الشتاء، ومن ذلك ما امتن به الحق سبحانه على عباده بقوله: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الاْنْعَـامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـاثاً وَمَتَـاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)) [النحل:80، 81]. 

فنسأل الله جل جلاله أن يتم علينا نعمه، وأن يجعلنا ممن عرفوا نعمه الحاضرة فقاموا بواجب الشكر لمسديها، وأن يوفقنا لعمل نستجلب به النعم المنتظرة، وأن يجعلنا ممن يقدرون الله حق قدره.

                      

                               وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

       كتبه: أبو محمد صلاح بن محمد الخلاقي