أنواع من الأعمال الفاضلة في أيام العشر من ذي الحجة - للشيخ د. صلاح الخلاقي

                                                                     بسم الله الرحمن الرحيم

                     (أنواع من الأعمال الفاضلة في أيام العشر من ذي الحجة)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:-

فتتميماً لما سبق الكلام عليه من عِظم فضل العمل في أيام العشر الأول من ذي الحجة، أحببت أن أتبعه بمقال نذكر فيه ما يفتح الله من الأعمال الصالحة وما يتعلق بها من أحكام، فالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لاشك أن أحب ما يتقرب به العبد إلى ربه من العمل هو ما افترضه سبحانه وتعالى عليه، ولا يزال العبد التقي يزداد من ربه قربة وتقرباً وخصوصاً في المواسم الفاضلة ومنها أيام عشر ذي الحجة ولياليها، ومن تلك الأعمال النافلة([1]) التي خصت بمزيد فضل في هذه الأيام ما يلي:

أولاً: أداء الحج والعمرة:

أداء الحج والعمرة من أفضل ما يعمل في هذه الأيام المباركة؛ ويدل على فضله أحاديث كثيرة: منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [متفق عليه] وعنه رضي الله عنه: قال: سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يقول:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [متفق عليه]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ثانياً: صيام هذه الأيام وبالأخص صيام يوم عرفة:

يعتبر صيام التسعة الأول من ذي الحجة من أفضل الأعمال التي يقوم بها غير الحاج؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده (22334) عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر) قال عفان: أول اثنين من الشهر وخميسين) ورواه أبو داود (2437)، والنسائي (4/205 و220 و221)، والبيهقي (4/284-285) من طرق عن أبي عوانة عن الحر به، وضعفه الزيلعي في نصب الراية (2/157)؛ لاضطرابه. وصححه الألباني. وقد ورد أن المراد ببعض أزواجه صلى الله عليه وسلم أم سلمة وورد أنها حفصة رضي الله عنهما.

ولكن روى الإمام مسلم في صحيحه (2846) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط) ورواه ابن خزيمة (3/293).

وقبل الجواب عما هو ظاهر هذين الحديثين من التعارض ينبغي التأكيد على استحباب صيام التسع من ذي الحجة، قال الحافظ النووي رحمه الله في شرح مسلم (3/245): "ليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة". فقد روى الإمام مسلم (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن صوم يوم عرفة قال: (يكفِّر السنة الماضية والباقية) ورواه الإمام أحمد في مسنده (22588)، وعبد بن حميد في مسنده (194).

وهذا فعل كثير من الصحابة والتابعين، كالحسن وابن سيرين وقتادة، وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم كما قال ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف.

والجواب عما ورد في ظاهر الحديثين السابقين من تعارض هو أن يقال: للعلماء مسلكان تجاه هذين الحديثين:

المسلك الأول: مسلك الترجيح: ولهم في ذلك مذهبان:

المذهب الأول: ذهب إلى ترجيح حديث عائشة؛ لكونه في صحيح مسلم، وأجيب عن عدم صيامه -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام مع ما لها من فضل، بما ذكره الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار (7/418-419) حيث قال: "فكيف أن يكون للعمل في هذه الأيام من الفضل ما قد ذكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها, ثم يتخلف عن الصوم فيها, وهو من أفضل الأعمال؟ فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل أنه قد يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم فيها على ما قالت عائشة رضي الله عنها; لأنه كان إذا صام ضعف عن أن يعمل فيها ما هو أعظم منزلة من الصوم, وأفضل منه من الصلاة, ومن ذكر الله عز وجل, وقراءة القرآن كما قد روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في ذلك مما كان يختاره لنفسه كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا روح بن عبادة، ووهب بن جرير قالا: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عبد الله كان لا يكاد يصوم فإذا صام، صام ثلاثة أيام من كل شهر ويقول: (إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة والصلاة أحب إلي من الصوم) فيكون ما قد ذكرته عائشة -رضي الله عنها- عنه صلى الله عليه وسلم من تركه الصوم في تلك الأيام؛ ليتشاغل فيها بما هو أفضل منه, وإن كان الصوم فيها له من الفضل ما له مما قد ذكر في هذه الآثار التي قد ذكرناها فيه، وليس ذلك بمانع أحدا من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل سواه, والله نسأله التوفيق".

المذهب الثاني: ذهب إلى ترجيح حديث حفصة؛ فقد روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث عائشة فأجاب مرة بأنه قد روى خلافه، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلا. وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أخذ بقول المثبت لأن معه علما خفي على النافي.

المسلك الثاني: مسلك الجمع بين الحديثين وهو ما حكاه ابن رجب عن الإمام أحمد في رواية ثانية عنه أنه حمل حديث عائشة على أنها أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً؛ يعني: وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، فينبغي أن يصام بعضه ويفطر بعضه.

قال ابن رجب: "وهذا الجمع يصح في رواية من روى: (ما رأيته صائما العشر)، وأما من روى: (ما رأيته صائما في العشر)، فيبعد أو يتعذر هذا الجمع فيه، وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر؛ لأنه يوهم دخول يوم النحر فيه، وإنما يقال: صام التسع ولكن الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه"لطائف المعارف ص 368.

ثالثاً: التكبير:

التكبير نوع من الذكر وهو مشروع عند كل أمر مهول، وعند كل حادث سرور؛ شكرا لله تعالى، وفي هذه الأيام العشر يشرع التكبير فقد روى البخاري تعليقاً (2/457) أن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما)، قالوا: وكان عمر يكبِّر في قبته بمنى؛ فيسمعه أهل المسجد فيكبِّرون، ويكبِّر أهل السوق حتى يرتج منى تكبيرًا، وكبر محمد بن علي خلف النافلة).

فيشرع في هذه الأيام التكبير المطلق في جميع الأوقات، من ليل أو نهار إلى طلوع الخطيب لصلاة العيد، ورفع الصوت بذلك.

وأما التكبير المقيد فلم يثبت في شيء من بدايته وانتهائه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وبن مسعود -رضي الله عنهما-: (إنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى) رواه بن المنذر وغيره، والله أعلم.

وقد اختلف أهل العلم في الأحوال والمواضع التي يشرع فيها التكبير: فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية، وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده.

وأما صيغة التكبير: فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح: عن سلمان قال: (كبروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً) ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم وهو قول الشافعي وزاد (ولله الحمد).

وقيل يكبر ثلاثا ويزيد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..إلخ).

وقيل يكبر ثنتين بعدهما: (لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) جاء ذلك عن عمر وعن بن مسعود نحوه وبه قال أحمد وإسحاق.

انظر: فتح الباري (2/462) فهذا خلاصة ما أورده الحافظ رحمه الله.

رابعاً: اغتنام يوم عرفة:

وتخصيص هذا اليوم يوم عرفة بالاغتنام يشبه تخصيص ليلة القدر بذلك، ويكفي في فضله حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول : ما أراد هؤلاء..) رواه مسلم (1348).

وخير عبادات هذا اليوم الدعاء؛ فهو العبادة، ويرجى قبول دعوة العبد واستجابة الله له في هذا اليوم، وقد روى الإمام مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) وفي لفظ: (أفضل الدعاء يوم عرفة) وصححه الألباني في الصحيحة (1503).

ويشرع التهليل في هذا اليوم؛ فعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) رواه الترمذي.

خامساً: الأضحية:

تشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق، وهو سنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين فدى الله ولده بذبح عظيم، وضحى رسولنا صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمر الله سبحانه في قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ([الكوثر: 3]، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: (ضحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما) رواه البخاري. وقد ورد في فضل الأضحية أحاديث منها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسًا) رواه الترمذي (1493) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (3126)، والحاكم (4/246) وقال: صحيح الإسناد، وضعفه الألباني.

وقد ورد التهديد من ترك هذه العبادة؛ فعن أبي هريرة: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من وجد سعة ولم يضح، فلا يقربن مصلانا) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

ويجب عليه أن يمسك عن قص الشعر والظفر: لما روى مسلم رحمه الله (5232) عن أم سلمة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وبشره شيئاً).

سادساً: صلاة العيد:

يشرع للمسلم أن يتمم شكره لله، وفرحه بنعم الله عليه؛ بأداء صلاة العيد حيثُ تُصلى، والاجتماع مع الناس؛ إظهاراً لهذه الشعيرة؛ واستشعاراً بفضل الله عليه أن هيئ مثل هذه المواسم التي تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات، ويعتق فيها من النيران.

ويشرع للعبد الإكثار من الأعمال الصالحة كلها، من نوافل العبادات، كالصلاة والصدقة والجهاد والقراءة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها من الأعمال التي تعظم أجورها في هذه الأيام.

هذا ما تيسر ذكره من الأعمال والأحكام والحمد لله على تيسيره، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                    كتبه: أبو محمد صلاح محمد موسى الخلاقي

                                      29/11/ 1433هـــ  - 15/10/2012م


([1]) وهي المقصودة بالذكر في هذا المقال، أما الفرائض وما يتبعها من أعمال كالتوبة والاستغفار فهي مشروعة في كل حين، وليست معنية بالذكر في هذا المقال.